باسم الله الرحمـان الرحيـم .. و الصلاة و السلام على أشــرف المــرسليـن ..
السـلام علــيـكـم و رحمـة الله تعـالى و بــركـاتـه
تمضي الأيـام .. لكن الذكرى تبقــى الماضــي مضـى .. و المضارع يمضي
لذلك فلنطـوي صفحـة الماضـي و لنبــدأ بصفحات بيضــاء جديــدة
و لنــجعل من من الذكريات الــوانا في كتابنا و لنــملئ صــفاحتنا البيــضاء بســطور ذهبية
تعــكس جمالها على منتــدانا هذا ..
الحمـد لله وحده نحمده و نشكره و نستعـينه و نستـغفره و نعـود بالله
مـن شـرور أنـفسنا و من سيـئات أعمالنا ..
من يـهده الله فلا مظل لـه و مـن يظـلل فلن تـجد له ولياً مرشدا ..
و أشـهد ألا إلاه إلا الله وحده لا شريك له و أن محــمداً عبده و رسـوله صــلى الله عليه و
سلم و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسـان إلى يوم الدين ..
ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الـخـبــيـر ..
ربـنـا لا فــهم لـنا إلا ما فهــمتنا إنــك أنـت الجــواد الـكـريـم .
مَرحَبَاً بِكُم زوَار و أعضَاء المُنتدى الكِرام، فِي بَيتِ الإهدَاء!!؟
أُقَدِّم لكم أيُّهَا الأحِبّة هَديَّة اليوم، هِي عِبَارَةٌ عَن:
سلسلة كَرِيمة بِعُنوان
الإعْجَاز اللغويّ وَالبَيَانيّ
من القرْآن والسّنة
مادة الكتاب مجمعة من موقع الإعجاز العلمي
في القرآن والسنة
العَدَدُ الثَّالِث!؟
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الجُزءُ الأَوَّل!؟
قال الله جل وعلا: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الحاقة: 38- 43)
أولاً- في هذه الآيات الكريمة يقرر الله جل وعلا تقريرًا حاسمًا جازمًا حقيقة هذا القول، الذي جاء به الرسول الكريم، هذا القول، الذي تلقَّاه الكفرة والمشركون بالرَّيب، والسخرية، والتكذيب. ويؤكِّد سبحانه وتعالى على أنه حق ثابت؛ لأنه صادر عن الحق، وينفي على سبيل القطع والجزم أن يكون شعر شاعر، أو كهانة كاهن، أو افتراء مفتر؛ ولهذا فهو أوضح من أن يحتاج إلى قسم لتوكيده بشيء مما نبصر، وبأشياء مما لا نبصر من مشاهد هذا الكون العجيب.
وقد كان مما تقوَّل به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: إنه شاعر، وإنه كاهن، متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر، وأن الشاعر في وهمهم له من الجن من يأتيه بالقول الفائق، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن، فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع.. وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة، وطبيعة الشعر والكهانة، وهي شبهة واهية سطحية، حتى حين كان القرآن الكريم لم يكتمل، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات، عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد ، وهو الله جل في علاه !
وكبراء قريش وصناديدها كانوا يراجعون أنفسهم، ويردُّون على هذه الشبهة بين الحين والحين؛ ولكن الغرض يعمي البصائر عن رؤية الحق، ويصمُّ الآذان عن سماعه..
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾(الأحقاف: 11)
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش، وهم يراجعون هذه الشبهة، وينفونها فيما بينهم، ومن ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة، وعن النضر بن الحارث، وعن عتبة بن ربيعة..
فما كان قولهم: ساحر، أو كاهن، أو غير ذلك إلا حيلة ماكرة أحيانًا، وشبهة مفضوحة أحيانًا.. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبُّر، وأول تفكُّر، وهو من ثمَّ لا يحتاج إلى قسم بما يبصرون، وما لا يبصرون:
﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾
﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ إنما هو:
﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
وكانت مواقفهم تلك من القرآن الكريم من أهم الأسباب الداعية إلى التحدي. ولقد عجبت من أحد المساكين، الذي عرَّف بنفسه أنه باحث عقلاني في القرآن الكريم، حين سمعته يكفِّر كل من يقول بالتحدي في القرآن، ويسفِّه رأيه؛ لأن الله سبحانه- على حدِّ زعمه- لا يليق به أن يتحدَّى البشر؛ بل يليق به أن يستهزئ بهم.
وسأنقل هنا شيئًا مما قاله هذا الباحث العقلاني في هذا الصدد، وأترك للقارئ الكريم التعليق عليه. ومن يدري فلعله يكون محقًّا فيما قاله! ومن ذلك قوله:
” الله نسب الاستهزاء بالكفرة إلى نفسه، فذلك يجوز في حقه، ولم ينسب التحدي؛ لأنه لا يجوز. ومن ظن أن الآيات فيها شبهة تحدًّ، فهو واهم، والله لا يستحي أن يقول للكفرة: إني أتحداكم نصًّا صريحًا في القرآن، أو على لسان رسوله الكريم؛ ولكن ليس هناك من أثر واحد فيه دعوة الله تعالى بالتحدي؛ وإنما هي نصوص أولها الناس على التحدي، وهذا ما لا يجوز بحقه سبحانه وتعالى “.
وأضاف هذا المسكين قائلاً:
” هل خرج سيدنا محمد على كفار قريش، وقال لهم إني جئتكم بقرآن من ربكم، أتحداكم أن تؤتوا بمثله ؟ أين الجهابذة عندكم ، فليعارضوا القرآن، وهو معجزة؛ لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ؟ هل جاء بالأثر مثل هذا ؟؟؟ لا، والله ، ما جاء؛ ولكنه وهم، وتحريف للكلم عن مواضعه.. شهادة بالغة لله في عنقي، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل “.
﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾، ونوِّر بصائرنا، ﴿ فََإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
ثانيًا- ذكرت في مقالي السابق ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ أن الله تعالى بعد أن قرَّر في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم ، تحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أن يأتوا:
﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37)
و﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13)
و﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34)
ثم أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا، فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من أمثالهم.
وذكرت في مقالي الآخر ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ أن قول الله عز وجل:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88)
كان بمثابة الإعلان في مكة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعجز العرب قاطبة، والأمم عامة، إنسهم وجنهم، عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم عجزًا مطلقًا، ولو تظاهروا على ذلك. وهذا ما دل عليه فعل الإتيان المنفي بـ﴿ لَا ﴾ نفيًا شاملاً على سبيل القطع والجزم في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، لا يمكن أبدًا، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن مجتمعين.
ثم ذكرت أن هذا المثل للقرآن ليس مثلاً مفترضًا- كما هو الشائع- وإنما هو مثل موجود، وبينت بالأدلة والبراهين على وجود هذا المثل بما لا يدع مجالاً لأحد أن يشك في وجوده، ويكفي في بيان ذلك وإثباته أن الله تعالى أقسم على أنه مثل موجود:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾
وذكرت أيضًا أنه ليس في هذه الآية الكريمة ما يشير لا من قريب، ولا من بعيد إلى أن الله تعالى طلب من المكذبين خاصة، والناس عامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، خلافًا للمشهور؛ إذ كيف يعلن الله تعالى عجز الإنس والجن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن الإتيان بهذا المثل للقرآن، ثم يطلب من الناس أن يأتوا بهذا المثل ؟
نعم لقد تحداهم في المدينة أن يأتوا:﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾، حين كانوا في ريب منه، وأن الجن- على حدِّ زعمهم- كانت تتنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(البقرة: 23)
ثم أسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ ولهذا انتقل سبحانه وتعالى إلى إرشادهم، فقال:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة: 24)
وقد سبق ذلك كله قول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:21-22)
والخطاب هنا عام للناس كل الناس، في كل زمان وكل مكان، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وليس فيه ما يشير إلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن في بلاغته وفصاحته ونظمه، وإن كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة، ففي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله.
وما في اللفظ يدل على خلاف ذلك..
ففي اللفظ قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾، وهو خطاب يراد به العموم، والعرب بعض من هذا العموم.
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾، والريب هو الشك بتهمة، وهو معلق بإن الشرطية، التي تدل على إمكان حدوث ما بعدها، وعدم إمكان حدوثه. وحدوثه، إن كان مع قلته، أخطر تهمة توجه إلى القرآن الكريم، فهو أخطر من الافتراء، ومن التقوُّل، ومن غيرهما.
ولهذا نجد آيات القرآن الكريم تتكرر في أكثر من موضع نافية على سبيل الاستغراق والشمول لكل جنس من أجناس الريب في القرآن، وتؤكد على أنه تنزيل من الله جل وعلا؛ لأنه المعجزة الكبرى، التي أيَّد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة: 2)
﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(السجدة: 2)
﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾(فصلت: 42)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ ﴾، والإتيان بالشيء يكون بالمجيء به، أو جلبه من مكان بعيد إلى مكان قريب بسهولة ويسر، دون جهد يبذل. ويكون ذلك إما بالاسترفاد من الغير كما في قوله تعالى هنا:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾
أو يكون ذلك بالاختراع من الجالب كما في قوله تعالى:
﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾(البقرة: 258)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ مِنْ ﴾، وهي لابتداء الغاية، مثلها في قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ ﴾(القصص: 49)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ مِثْلِهِ ﴾، ومِثْلُ الشيء، بكسر فسكون، هو المساوي للمثل الآخر المتفق معه في الجنس في تمام ذاته، أو حقيقته وماهيته، أو جوهره، لا في صفاته؛ فإن المثل لا يكون مثلاً لغيره، إلا وذلك الغير مثلاً له. والمثلان- بإجماع علماء التوحيد- هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، بحيث يسد مسدَّه. والشيء- كما قال أبو هلال العسكري- لا يكون مثل الشيء في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته، وأن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمثل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. وقد بينت ذلك ووضحته في مقالي المذكور:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
فليس من الصواب في شيء بعد هذا كله أن يقال: إن الله تحدى العرب بأن يقولوا مثل هذا القرآن، أو سورة واحدة مثل سور هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وحسن نظمه، وما أشبه ذلك؛ لأنها صفات خارجة عن ذات الشيء وجوهره، أو حقيقته وماهيَّته، لا يعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومن قال خلاف ذلك، فإنه لا يعرف جوهر الكلام، ولا يدرك شيئًا من أسرار البيان. وما أظن أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا يفهمون معنى المثلية في هاتين الآيتين كما فهمها جمهور المفسرين، وأعني: المثلية في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23)
ثالثًا- وحدث- بين الإعلان عن عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾، وبين تحدِّي الناس كلهم أن يأتوا بسورة من هذا المثل للقرآن ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾- أن اعترض الكفار في مكة على صحة دعوى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن ما جاء به من القرآن ليس بكلام الله، وأنه إنما أتى به من عند نفسه على سبيل الافتراء تارة، وعلى سبيل التقوُّل تارة أخرى، فبيَّن الله تعالى في هذين المقامين أن إتيان محمد عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى، وليس على سبيل التقوُّل على الله جل وعلا؛ ولكنه وحي نازل عليه من عند الله تعالى، فقال سبحانه في الرد على القائلين بالافتراء:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(يونس: 37)
فنفى سبحانه أن يكون هذا القرآن مفترى من دون الله. أي: ما ينبغي لبشر أن يفتري هذا القرآن، وينسبه إلى الله جل وعلا. فنفى تعالى فعل ذلك، ونفى احتمال فعله، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع؛ بل يمتنع وقوعه، فيكون المعنى: ما يمكن، ولا يحتمل، ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق، والمخلوق لا يقدر على ذلك.
ثم قال سبحانه في الرد على القائلين بالتقوُّل:
﴿ أََمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُون ﴾(الطور: 30- 33)
وهو حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن وحيًا من الله سبحانه، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوّله على الله سبحانه. فالاستفهام إنكار لقولهم، واستبعاد له. وهم قد أكثروا من الطعن، وتمالؤوا عليه؛ ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة الحاضر:﴿ يَقُولُونَ ﴾، المفيدة للتجدد، ثم أتبع بقوله تعالى:﴿ تَقَوَّلَهُ ﴾، بدلاً من قوله، فيما تقدم:﴿ افْتَرَاهُ ﴾؛ وذلك لاختلاف المقامين.
والتقوُّل معناه: قال عن الغير: إنه قاله. فهو عبارة عن كذب مخصوص؛ كقوله تعالى:
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴾(الحاقة: 38)
أي: قال عنا ما لم نقله. وليس كذلك الافتراء؛ إذ كل تقوُّل افتراء، وليس كل افتراء بتقوُّل.
ولهذا شدَّد الله جل وعلا في وعيد من يتقوَّل عليه ما لم يقله، فقال في جواب الآية السابقة:
﴿ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾(الحاقة: 39- 40)
ثم قال تعالى:﴿ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ جوابًا لقوله:﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾، فابتدأ الرد عليهم؛ لتعجيل تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم؛ وليكون ورود الاستدلال مفرَّعًا على قوله:﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، بمنزلة دليل ثان.
والمعنى: لا يؤمنون بسبب كفرهم وعنادهم، مع أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن الكريم بيِّنةٌ لديهم؛ ولكنهم أبوا أن يؤمنوا، وبادروا إلى الطعن في القرآن الكريم دون نظر، وشرعوا يلقون المعاذير سترًا لمكابرتهم، وجهلهم، وغرورهم؛ من نحو ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن ممَّا حُكِيَ عنهم؛ كقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال: 31) ، وقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾(يونس: 15) ، وقوله تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾(الزخرف: 30- 31).
فأخبر تعالى عنهم: أنهم ادعوا مرة القدرة على أن يقولوا مثل القرآن، ووصفوه بأكاذيب الأولين، وحكاياتهم المسطرة في كتبهم؛ كالأضاحيك والأعاجيب. وأنهم طلبوا منه مرة الإتيان بغير القرآن مرة، أو تبديله. وأنهم قالوا مرة، لما جاءهم: هذا سحر، وكفروا به، ثم قالوا: لولا نزِّل هذا القرآن على رجل غيره عظيم؛ كالوليد بن المغيرة بمكة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور، من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدي إليه، ووجد الحثُّ عليه.