أثر الإعلام في اللغة والثقافة
لم
يعد الإعلام أسير دفتي كتاب ولا صحيفة يومية أو أسبوعية ولا مجلة دوريّة،
فكل هذه الوسائل على استمرارها تشهد عزوفًا عن الاعتماد عليها؛ إذ الأخبار
العالمية تتسابق القنوات الفضائية إلى إعلانها، وتضع المتلقي في بؤرة الحدث
حيث تنقله بالصورة والصوت، فإذا نشر الخبر في الصحيفة فهو خبر فات أوان
ذكره ولم يبق للصحيفة إلا فضيلة تحليل أو تعليق إن وجدتا. ثم جاءت العنكبية
لتحول العالم كله إلى مجتمع واحد يسهل تواصله بهذه الشبكة العجيبة، واهتبل
الإعلام ما تهبه هذه الشبكة من ميزات ليصل إلى كل مكان بأسرع وقت ممكن،
ونشأ ما يمكن أن يسمى الإعلام الجديد بأدواته العنكبية الجديدة (تويتر
ونظائره، يوتيوب، فيسبك ونظائره)، هذا الإعلام الجديد المتسم بسمات جعلته
يفارق الإعلام القديم، ومن هذه السمات تعدد أشكاله ووسائله، وسرعة وصوله
إلى المتلقي، وسهولة الحصول عليه، وانعتاقه من الرقابة الرسمية
والاجتماعية، وانفتاحه على جميع مستويات المتلقين إنتاجًا واستقبالا. وكان
لهذا الإعلام آثاره السريعة الواضحة على لغة الناس وثقافتهم، وهي آثار بلغت
أوجها في تحريك الجماهير ولمّ صفوفهم وتوحيد كلمتهم أمام أنظمة حكم رأوها
ظالمة مهدرة حقوقهم، ونجد من ناحية لغوية أن ما وهبته هذه الوسائل من إمكان
النشر غير المراقب ولا المدقق ولا المشروط ولا الصادر من نخب محددة نجد
ذلك جعل اللغة تظهر بمستوياتها المختلفة الفصيحة والعامية واللغة التي تجمع
بين العربية وغيرها وعرفت بين أوساط الشباب بالعربيزي، ونال ما يظهر بلغة
فصيحة ألوان من الأخطاء صارت تتداولها الناس وباتت من الأخطاء الشائعة التي
لا يدرك مخالفتها للقواعد المقررة سوى المتخصصين، وتؤدي سرعة النشر إلى
ضعف المراجعة والتصحيح فتنتشر الأخطاء. أتاح الإعلام الجديد الحر لطاقات
إبداعية أن تنطلق وتعمل في مستوى عال من الإعداد والتقديم، وأظهر قدرة
الشباب على متابعة أحوال المجتمع ونقد الأداء في المؤسسات المعنية، وظهرت
فرق متآزرة تجمع بين ثقافتين ثقافة عربية وأخرى أجنية، ولكن غلبة العامية
في لغة هذا الإعلام يجعله محليًّا في بعض مفرداته، ومن هنا تظهر أهمية
اللغة الجامعة المشتركة وهي اللغة الفصيحة، وهي لغة نجد أنه يلجأ إليها في
المواقف الجادة المتوجهة إلى جمهور العرب كله، ولعل من الآثار الثقافية
التي يمكن أن نلمسها انعتاق المعبرين من سلطة الرقابة فأمكن للمذاهب
الدينية المختلفة أن تعبر عن نفوسها وأن تهاجم وتنقد غيرها من المذاهب
مستعينة بالصورة والصوت، وصار أنصار كل مذهب قادرين على الاطلاع على جوانب
الخلاف والاختلاف وهو ما قد يؤدي إلى التحول المذهبي سرًّا أو علنًا لا
يمنعه عن ذلك سوى التعصب المذهبي أو شدة الإيمان بالمذهب نفسه وثقته بأئمة
هذا المذهب، ورأينا أنه صار لغير الدينيين فرصة للتعبير عن أنفسهم تعبيرًا
أثار غضب جمهور من الناس راحت تطالب بالعقاب. وبالإعلام الجديد صار من
السهل شن حملات لمقاطعة سلع تلاعب التجار بأسعارها. وإن يكن لهذا الإعلام
منافع فإن له مخاطره وآثاره الضارة، ومنها إضعاف مهارات الأفراد وملكاته
الذاتية وهي آثار صاحبت اختراع الإنسان الآلات ولكنها تفاقمت اليوم فالآلات
سرعت أعمال الإنسان وحملت عنه الأثقال ولكنها جعلته يركن إلى الدعة وأضعفت
عضلاته الجسدية وزادت أمراضه وسموم جسمه، وكذلك نجد ملكاته الذهنية في
تراجع باعتماده على الآلات في الحفظ والتخزين فكل المعلومات صارت مودعة في
الحواسيب والعنكبية والبحث عنها آلي وقلّ الرواة الشفهيون وصار الاعتماد
على المدون هو الأصل. واعتماد المتلقي على القراءة الصامتة أفسد قدرته على
القراءة الجهرية، ونابت الحواسيب في الكتابة عن الكتابة اليدوية بالقلم
فأفسد هذا خطوط الناس فما عدت ترى كتابة واضحة مقروءة بله الجميلة المشرقة،
وأما الخط العربي فقلّ من يجيده وشاع الاعتماد على خطوط الحواسيب التي
كثرت بأشكال مختلفة ومتخلفة من حيث عناصر الجمال فيها، بل انحدر ذوق الناس
فربما تجدهم يستعملون من الخطوط ما تعافه النفس وتزورّ عنه وتقتحمه العين.