ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
السلام عليكم و رحمة الله
شرف كبير أن أتقدم إليكم بهذه السلسلة بعنوان
سلسلة المفاتيح الدعوية لسورالقرآن الكريم
لفضيلة
الدكتور عبد الحي الفرماوي
رئيس قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة
الأزهر
مفاتيح سورة الذاريات .
أولاً:اسم السورة
وهذه
السورة تسمى بـ :
سورة الذاريات(1)
وذلك : لأنها مبدأ الخيرات،
فأشبهت العناية الإلهية (2).
----------------
عدد آياتها ، وكلماتها، وحروفها (3).
وعدد
آياتها : (60) ستون آية
وكلماتها : (360) ثلاثمائة وستون كلمة.
وحروفها
: (1287) ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفاً .
----------------------
ترتيبها
هي
: سورة مكية
أ ـ في المصحف .. بعد : سورة " ق " ، وقبل : سورة "
الطور".
ب ـ في النزول .. بعد : سورة " الأحقاف" ، وقبل : سورة
"الغاشية".
------------------------
تناسبها
مع " ق "
1ـ إذا كانت سورة " ق " : قد ختمت بذكر البعث،
واشتملت على ذكر الجزاء، والجنة والنار، وغير ذلك ..!!
فقد افتتحت هذه
السورة : بالإقسام على ما وعدوا من ذلك لصادق ، وأن الجزاء لواقع (4).
2ـ
وإذا كان المولى سبحانه : قد ذكر في سورة " ق " إهلاك كثير من القرون على
وجه الإجمال .. !!
فقد ذكر عز وجل هنا : إهلاك بعضهم على وجه التفصيل
(4).
3ـ إذا كانت " ق " : قد انتهت بذكر .. التذكير والوعيد، كما في
قوله تعالى : (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)
(6) .. !!
فإن " الذاريات" : تبدأ بالوعيد، وتنتهي الوعيد ، وبين هذا
وذاك، جاء ـ كذلك التذكير..
فقد بدأت : بقوله تعالى : ( والذاريات ذروا * ..... * إن ما توعدون لصادق* وإن الدين
لواقع ) (7).
كما ختمت : بقوله تعالى: ( فويل
للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون)(8).
وجاء التذكير بين هذا
الوعيد وذاك .. كما في قوله تعالى : (وذكر فإن
الذكرى تنفع المؤمنين ) (9).
4ـ إنه قد ذكر في السورة السابقة
البعث والجزاء والجنة والنار، وافتتح هذه بالقسم بأن ما وعدوا من ذلك صدق
وأن الجزاء واقع (10).
5ـ إنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه
الإجمال، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل (10).
---------------------
تقسيمها
(11)
تتكون هذه السورة من : مقدمة ، وثلاث فقرات وخاتمة.
المقدمة
: عبارة عن (6) آيات
من الآية الأولى ، وحتى نهاية الآية (6)
وفيها :
قسم
من الله تعالى ببعض مخلوقاته ، وجواب هذا القسم، وهو أن وعد الله صادق لا
محالة، وأن يوم الجزاء آت ـ كذلك ـ لا محالة.
وفي ذلك : وعيد لمن كفر ،
ووعد لمن آمن وصدق.
والفقرة الأولى : عبارة عن (17) آية .
من الآية
(7) حتى نهاية الآية (23).
وفيها :
قسم آخر على أن الكافرين في تناقض
من أمرهم، لأنهم على باطل، والباطل يفرق أهله ، ولا يجمع الناس تحت لوائه
في صف واحد إلا الحق.
وتهديد للكافرين بسبب عنادهم ، وتمسكهم بهذا
الباطل، الذي جعلهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ويستعدون بالإيمان والعمل
الصالح له.
وبشارة لأهل الحق المؤمنين المتقين، الذين عرفوا ربهم،
فآمنوا به، وبكل ما أنزله ، فأخذوه بجد، وعملوا به.
ثم دعوة للاعتبار
والنظر، قد تعيد من كفر إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
والفقرة
الثانية : عبارة عن (23) آية .
من الآية (24) إلى نهاية الآية (46).
وفيها
:
عرض لنماذج تمادي أهلها في الكفر والعناد، والتمسك بالباطل، وعدم
الإيمان بالله واليوم الآخر، والتصديق برسل الله عليهم السلام :
ومن
هؤلاء :
قوم إبراهيم ولوط ـ عليهما السلام ـ
وفرعون وقومه.
وعاد ،
قوم هود ـ عليه السلام ـ
وثمود ، قوم صالح ـ عليه السلام ـ
وقوم
نوح ـ عليه السلام ـ
وقد قدمت هذه النماذج على أنها آيات يراها الموقنون
الذين يخافون ربهم؛ فيدفعهم ذلك إلى القيام بحق الله تعالى ؛ رجاء موعوده
كما أن في تقديمها ـ كذلك هنا ـ تهديد للكافرين ، وتلبية لهم على سوء
موقفهم، وسوء مصيرهم بسببه.
والفقرة الثالثة : عبارة عن (9) آيات.
من
الآية (47) حتى نهاية الآية (55).
وفيها :
عرض لآيات باهرات من آيات
الله تعالى : تؤدي بمن يراها ـ والكل يراها ـ ويعتبر بها ـ والبعض لا
يعتبر ـ إلى الإيمان بالله تعالى، والفرار إليه، والاحتماء به، وخلع الكفر،
ونبذ الشرك.
ولكن .. العناد طبيعة الكفرة ، والطغيان تصرفهم .. !!
ثم
.. يأتي التخفيف عن الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يؤلمه عنادهم،
فيقول له ربه ( فتول عنهم فما أنت بملوم)
ولكن (ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
والخاتمة
: عبارة عن (5) آيات.
من الآية (56) حتى نهاية الآية (60) وهي خاتمة
آيات السورة .
وفيها :
بيان الحكمة من خلق الناس والجن .. وهي عبادة
الله وحده ، ونبذ الشرك وأهله.
وإزاحة عائق من عوائق الإيمان .. وهي
قضية الرزق ، حيث بين أن الرزق ـ للجميع ـ مضمون ، وأنه هو (الرزاق ذو القوة المتين ) والعباد محتاجون إليه،
وهو يرزقهم جميعاً، وهو غني عن العالمين .
ثم تحذير ـ أخير في السورة ـ
للرافضين ، الكافرين، من عذاب الله في الدنيا والآخرة .
------------------
أبرز موضوعات السورة الكريمة
(12)
1ـ دلائل البعث من العجائب الطبيعية والعلوم النفسية.
2ـ
جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة.
3ـ أخبار الأمم
السالفة التي كذبت رسلها.
4ـ تسلية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما
يلقاه من أذى قومه.
5ـ الفرار إلى الله من هذه الدنيا المحفوفة
بالمخاطر.
6ـ النهي عن الإشراك بالله.
7ـ إخبار رسوله بأن قومه ليسوا
ببدع في التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك.
8ـ أمره ـ صلى الله عليه وسلم
ـ بالإعراض عنهم ، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
9ـ إخباره بأن
الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.
10ـ وعيد الكافرين بأن العذاب
سيحل بهم يوم القيامة.
11ـ إن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصيب
نظرائهم من المكذبين.
----------------------
الفوائد
والدروس
1ـ في قوله تعالى (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون)
17
يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( يا
أيها الناس : اطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وافشوا السلام ، وصلوا بالليل
والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام).
ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(إن في الجنة غرفا، يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها
من ظاهرها ).
قال أبو موسى الأشعري : لمن هي يا رسول الله .. ؟
قال : " لمن ألان الكلام وأطعم الطعام ، وبات لله قائماً والناس نيام ).
2ـ
في قوله تعالى : (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين *
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) 35 ـ 36
مع قوله تعالى : (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ....)
الحجرات
14
3ـ (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ).
معجزة
التوسع والأطرد الكوني ـ نظرية اينشتين اليهودي ـ اسم الفاعل موسعون.
4ـ
(ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) 49
جمع
انلافات أزواج : سماء وأرض ، ليل ونهار، شمس وقمر، بر وبحر .. إلخ كما
يشمل الحيوانات والجمادات والمجرات ، (الذاريات).
5ـ (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) 55
التذكير نفع
للمؤمن ، ورجاء مع بعض الكفار، وأراد المذمة مع طغاة الكفرة ،
6ـ (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) 56
1ـ
استقرار معنى العبودية لله في النفس والشعور والحركة.
2ـ التوجه إلى
الله تعالى بكل حركة في الضمير، والجوارح والحياة بإخلاص وتتجرد.
7ـ (إنه هو الرزاق ذو القوة المتين) مع (وفي السماء
رزقكم) 58
روى الإمام أحمد .. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإلا
تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك).
8ـ في هذه الجملة الكريمة
مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم، وترك الاستراحة، وذلك ذكر القليل، والليل
الذي هو وقت النوم، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم، وزيادة (ما) لأنها
تدل على القلة، وبالجملة ، ففي الآية استحباب قيام الليل، وذم نومه كله،
والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة "وبالأسحار هم يستغفرون" قال القاضي : أي
أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم ، إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم
أسلفوا في ليلهم الجرائم.
قال الرازي : في الآية إشارة إلى أنهم كانوا
يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه،
فيستغفرون من التقصير. وهذا سيرة الكريم : يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله،
ويعتذر من التقصير. واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره، ويمن به.
وفيه وجه
آخر ألطف منه : وهو أنه تعالى ، لما بين أنهم يهجعون قليلاً ، والهجوع
مقتضى الطبع، قال (يستغفرون) أي من ذلك القدر من النوم القليل. وفيه لطيفة
أخرى نبينها في جواب سؤال : وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع، ولم يمدحهم
بكثرة السهر، وما قال : كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه؟
مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد، لا الهجوع، نقول : إشارة إلى أن نومهم
عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم
الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار، في وجوه الأسحار، ومنعهم من الإعجاب
بأنفسهم والاستكبار.
ثم قال : والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر
بقولهم: ربنا اغفر لنا. وطلب المغفرة بالفعل، أي بالأسحار. يأتون فعل آخر
طلباً للغفران، وهو الصلاة. والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر.
انتهى.
ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها. والزكاة قرينة
الصلاة في كثير من الآيات، وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار، الإشارة إلى
أنه ركنها المهم في التهجد، بل وفي غيره، فيكون من إطلاق الجزء على الكل،
وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها، كالركوع والسجود وبين
السجدتين وآخر الصلاة، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن ـ وكان ـ صلى الله
عليه وسلم ـ يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك (13).
قال الزمخشري في
(أساس البلاغة) إنما سمى (السحر) استعارة، لأنه وقت إدبار الليل ، وإقبال
النهار، فهو متنفس الصبح . انتهى (13).
9ـ (وفي أموالهم حق للسائل
والمحروم ) أي الفقير المتعفف الذي يظن غنيا ، فيحرم الصدقة.
قال قتادة :
هذان فقيرا أهل الإسلام : سائل يسأل في كفه، وفقير متفف، ولكليهما عليك
حق، يا ابن آدم.
وفي الصحيح (14) عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس
المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والثمرة والثمرتان، ولكن المسكين
الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
ويدخل في (المحروم) كل
من لا مال له ، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم
أفراده المتعفف، ولذا عول عليه الأكثر.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس :
في أموالهم حق سوى الزكاة يصلون بها رحما ، أو يقرون بها ضيفاً ، أو
يحملون بها كلاً (13).
10ـ ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص
والتخمين في باب الاعتقادات ، لكثرة الآيات الواضحة، بقوله سبحانه :
(وفي
الأرض ءايات للموقنين) أي عبر وعظات لأهل اليقين، وهم الذين يقودهم النظر
إلى ما تطمئن به النفس؛ وينثلج له الصدر، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف
النبات والحيوانات، والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، عبراً وآيات
عظاماً، وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته ، جل جلاله (13).
11ـ
(وفي أنفسكم أفلا تبصرون) أي في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال،
واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من
التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل
عضو منها، في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب، ولا
لسان بليغ (13).
أنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكر
والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشي:
وإذا نظرت تريد معتبراً . فانظر إليك
ففيك معتبر
أنت الذي تمسي وتصبح في الـ نيا وكل أموره عبر
أنت
المصرف كان في صغر ثم استقل بشخصك الكبر
أنت الذي تنعاه خلقته ينعاه منه
الشعر والبشر
أنت الذي تعطي وتسلب ، لا ينجيه من أن يسلب الحذر
أنت
الذي لا شئ منه له وأحق منه بماله القدر
* * *
الهوامش
ـــ
1ـ انظر : السخاوي .. جمال
القراء 1/37، الفيروزابادي 1/439 ، الشوكاني .. فتح القدير (س : 51)
2ـ
انظر : القاسمي .. محاسن التأويل ( س : 51 ).
3ـ انظر : مكي .. التبصرة ص
335 ، السخاوي .. جمال القراء 1/218، الفيروزابادي .. بصائر ذوي التمييز
1/439، الألوسي .. روح المعاني (س: 51)، نثر المرجان 7/27.
4ـ انظر :
الألوسي .. روح المعاني ( س : 51).
5ـ انظر : الأساس 10/5532.
6ـ ق
45.
7ـ الآيات 1ـ 6.
8ـ الآية 60.
9ـ الآية 55.
10ـ تفسير
المراغي.
11ـ تفسير الأساس 10/5506 (بتصرف).
12ـ تفسير المراغي
27/15.
13ـ تفسير القاسمي. سورة الذاريات ـ الآية 17.
14ـ أخرجه
البخاري في : 65 ـ كتاب التفسير ، 2ـ سورة البقرة ، 48 ـ باب لا يسألون
الناس إلحافاً ، حديث رقم 788 عن أبي هريرة .
***
بقلم فضيلة الدكتور عبد الحي الفرماوي
رئيس قسم
التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر
المصدر : موقع هدى الإسلام.