الحياد الإعلامي وغياب الروح

قضية
القرصنة الأنجلو-امريكية في العراق واضحة ومحسوبة في ذهن العالم كله، فكيف
يفشل بعض الاعلام العربي في فهمها ذاك الفشل الذريع؟ على الأخص تمثل الفشل
في الجوانب التالية:

أولا:
في الوقوع في فخ التعابير الدعائية المضللة التي ابتدعتها مخيلة الآلة
العسكرية-السياسية في واشنطن، فالاعتداء الهمجي وقرصنة السراق سماهما
اعلامنا حرب الخليج الثالثة بل حرب التحرير، فأسبغ صفة الاحترام على عمل
مشين. والهجوم الذي تقوم به دولتان معزولتان قانونيا واخلاقيا سمي تحالفا
دوليا. ومذابح المدنيين وهم نيام في بيوتهم اعطيت وصفا محايدا فسماها اعلامنا قصفا ليركز على الوسيلة ويبعد نفسه عن النتيجة. ورجال العصابة الذين تم القبض عليهم سماهم اعلامنا اسرى حرب وظل يبحث مع الغزاة في كتب القانون الدولي التي مزقتها امريكا إرباً إرباً عن كلمات متناثرة يستطيعون بواسطتها حماية مرتكبي الارهاب ضد شعب لم يعلن الحرب عليهم.

ثانيا:
في تبني الأسلوب الحيادي الروبوتي (الميكانيكي) الذي كان اعلامنا العربي
يستعمله وهو يتكلم عن الجلاد الامريكي والضحية العربية والمسلمة. كان
اسلوبا خاليا من
المشاعر تجاه الضحية، مفرغاً من أي انحياز أخلاقي إليها، بعيداً عن اي
ارتباط بالروح الانسانية. لقد ابعدت السماء عن هذه المذبحة الارضية. كان
هناك خلط فاضح بين الموضوعية والدقة المطلوبين حتما وبين الحياد المادي
الحسابي البارد الذي بدأ الكثير من الاعلاميين والمثقفين العرب ممارسته في الآونة الاخيرة كجزء من تبنيهم للعلمانية الغربية المتوحشة.

ثالثا:
في ممارسة لعبة الاخفاء المقصود، او التقليل من اهمية اخبار بالغة
الأهمية. فنداء الازهر، على سبيل المثال، الذي اكد ان الجهاد اصبح فرض عين
بالنسبة إلى غزو العراق لم يذكر إلا لماما وكأن اعلامنا اصبح يخجل من موضوع
الجهاد ويرضى بأن يترك اهل العراق وحدهم في أتون المحرقة النازية الجديدة. وكان
ملفتا للنظر قلة ظهور القيادات السياسية العربية الرسمية وهي التي عهدناها
سباقة في استعمال الاعلام، والى حد الاسفاف، في الامور التي تخصها. لقد
كان واضحا انها انزوت انزواء الانتهازي المنتظر لما تسفر عنه المعركة قبل
ان يلزم نفسه بموقف قد
يندم او يعاقب عليه في المستقبل. وهكذا اصبحت ثوابت الأمة سلعاً في سوق
النخاسة يراهن على تخزينها او بيعها، إعلانها او السكوت عليها، حسب الحاجة
والظروف، من لا يرغبون قط في المجازفة بحمايتها او ممارستها.

وبالطبع
كانت هناك حالات شاذة من النبل والالتزام والاستقامة مارسها بعض وسائل
الاعلام العربي هنا وهناك. لكن الغالبية سقطت، مع من يمولها او يشرف عليها
او يفاخر بها، في العار الذي يجلل من لا يرون في العهر الامريكي إلا الفضيلة ومن يختزلون العراق العظيم في شخص واحد.