وسط
اكتساح التكنولوجيا لوجودنا المعاصر، و في خِضّم غابة وسائل الاتصال وزحمة
الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وفي وقت يبدو المثقف الواعي في حيرة من
أمره و يسعى الى احتضان مفردات الثقافة والتقانة و مواكبتها؛ يجد المفكر
الميديائي نفسه مطالبًا وأكثر من أي وقت مضى بتقديم رؤية إنسانية متكاملة
تسهم في فتح أفق جديد ومغاير لدور الاعلام ووسائله ليتغلب على عطالته من
جهة و ليبدع فكرًا في عالم أمست فيه المعرفة إلزامًا يشبه الحتمية
القدرية الى حدّ بعيد .
وتتميز وسائل الاعلام بقدرة عالية على شحن
الطاقات وتفعيلها ، وهو دور متعدد في وجه ومزدوج في آن، فإمّا أن تتحول
الشاشة الى أداة فاعلة لبناء الانسان و من ثم خدمة مشاريع التنمية
البشرية، أو تتحول إلى أداة تفتيت مدّمرة بتغذية العنف والعصبيات وترويج
صورة الانسان المستهلك، وتصبح شاشة "القمامة "ومواقع "التفاهة" أداة تسويق
لثقافة طاعة الأيديولوجيات المتصارعة وتكريس العنف وتسويق الاستهلاك.
الثقافة والاعلام : حربٌ أم انفصام ؟!
يُصَوِّر
لنا العديد من "المثقفين " ان ثَمّة حرب دائرة بين "ثقافة الشاشة "
و"ثقافة الشعوب " والمجتمعات معتبرين ان وسائل الاعلام "شيئ منفصل " عن
"أصالة الثقافة "، وغالبًا ما يُعرب حرّاس "الهوية" عن قلقهم وخوفهم من
وسائل الإعلام والفضائيات, وأنها تعمل على تخريب الثقافة الراديكالية أو
التي ترتبط بالتراث و"الدين " بشكل مباشر.
ولكن ما يمكن لنا سبره
علميًّا وملاحظته عَمليًّا هو ان العلاقة بين الثقافة والإعلام علاقة
متحرّكة، والفصل بينهما ولو شكليًّا يُعد خطأ منهجيًّا وبنيويًّا، ويعيق
عملية فهم تلك الحركة المتبادلة الدائرة بينهما.
فالإعلام كما العادات
كما التقاليد كما الدّين كسائر مفردات التركيبة المجتمعية تتقاطع مع بعضها
البعض، ولا يمكن فهم واحدة منها بمعزل عن الأخرى. وعندما يحصل تنافر بين
ثقافة الشاشة والثقافة المحلية أو الشعبية او اي ثقافة أخرى فإننا نكون
أمام انفصام ثقافي، وليس أمام حرب بين الثقافة والإعلام.
إن عملية
الفصل تلك، هي عملية واهمة فوسائل الاتّصال والإعلام تنخرط في جملة القيم
التي تُنْتجُها الثقافة؛ والانفصام الثقافي ممكن ان يحصل بين أي مكونيْن،
ذو مضامين متناقضة من مكونات ثقافة واحدة.
وبما ان من أهمّ خاصية
الرموز الثقافية هي اللامادية والانتقال السريع، كما أنها تتميز بإمكانية
إخضاعها "للأدلجة" لدرجة مبالغة فيها، لأن من أبرز مقوماتها اللغة، والفكر
بجميع مستوياته، والعلم والمعرفة، بالإضافة الى العقائد والديانات والقيم
والأعراف الثقافية….فإن وسائل الاعلام تُشكل عمليًّا التعبير الثقافي عن
الإنتاج المعلوماتي.
إذن السؤال المحوري هو : كيف يمكن لنا بلورة منتج معلوماتي قابل للصرف في سوق الثقافة "السوداء" العالمية ؟
القيم الانسانية في عالم افتراضي :
لاشك
في أن الانترنت يخلق فرصًا عظيمة وتهديدات مروّعة، ويخطئ من يتصور أن هناك
فئة " مستهدفة " من قبل "آخرين " ، فالكتاب "العرب " و"الاسلامين" يصورون
لنا دوما التحديات على انها تريد فقط تقويض ما يسمونه "بالعروبة والاسلام
" علمًا ان هذا الموضوع على ركاكته تجاوزه الوقت وعفا عليه الزمن .
ان
التحديات الفعلية اليوم تتجاوز كل أطياف الألوان والألسنة والعقائد
البشرية… إنه تحدي إنساني بامتياز . فنحن ولجنا عالمًا افتراضيًّا يستحيل
فيه فعليًّا السيطرة على تدفق المعلومات.ونحن مطالبون اليوم – شئنا أم
أبينا – من توظيف وسائل الاتصال المعلومات في تنمية " الانسان " والقيم
الانسانية ( ايًّا كان مصدرها)، وهو تحدي كوكبي وليس فئوي وليس تحديًّا
قوميًّا او وطنيًّا يخص فئة معينة او بلد معين.
ان ما يقوم به
"الدعاة" من (حماة العقائد ) في ترسيخ "مفردات ثقافة معينة" تحت ذريعة
التنمية الثقافية والحفاظ على الهوية ومواجهة التحديات - في مقابل او
مواجهة "مفردات ثقافة الآخر" هو عمل مدمّر على المدى المتوسط وحتى القريب
لأن مجابهة التحديات الثقافية لا يكون عبر توجيه "النيران الايديولوجية
لمن جعلناه "خصمًا "لنا ….
إذن من الأجدى ان يتركز المنتج الفكري
الاعلامي على قيم الحكمة الخالدة المشتركة التي (تتجاوز كل الانقسامات
الدينية والاثنية والمذهبية …) والخروج التام من معسكرات الفكر والعقائد …
الى أفق الانسان الكوني بحيث يصبح دور التنمية هو اعادة التوازن لحياة
الكائن البشري اينما وُجِد ولأي ملة انتمى .
إن (التنمية ) كمفهوم
يجب ان يُطرح من فلسفة تأخذ دينامية الحياة بعين الاعتبار وضرورة الحرص
على انتظامها وتوازنها إن من الناحية البيئية والطبيعية او من الناحية
الانسانية لتحقيق التوازن المختل للفرد والجماعة .
فالتنمية
الاعلامية تتطلب وضع توازن الانسان أولى الاوليات بما يحقق الاصلاح
السياسي (الحريات )، ووقف العنف و منع الصراعات، وضرورة اعادة الاعمار،
وطرح خطط الطوارئ، و الاهتمام بالبيئة والصحة …و خطوة (التنمية ) الاولى
ربما تكون في الاقرار بان "انقلاب ثقافي عميق مطلوب قد بدأ يتحقق ويمكن ان
نوجز ذلك بنقاط :
· تطوير رؤية عن التنمية بمفهومها العام
المرتكز على فلسفة تجعل توازن الانسان والطبيعة الكونية فوق كل اعتبار
وذلك يتطلب عدم اختزال الانسان في تعريف واحد وتقليصه في بنية صورية واحدة
…و التنمية ينبغي ان تواكب كافة مستويات الواقع وكافة المتغيرات ،
فالتنمية الاقتصادية ينبغي الا تغفل روحية الانسان، وان تضع متغيراته
النفسية بالحسبان وعدم التعاطي مع الانسان بوصفة كائن مستهلك باحث عن
المنفعة العاجلة واللذة الآنية .
· تبني المفاهيم والقيم التي
ترتكز على الحكمة الانسانية المشتركة الخالدة المعبّرة عن النضج النفسي
والروحي للانسان العاقل فيما يتعدى الزمان والمكان فالتنمية البشرية تتطلب
"وعيًا " كونيا
· التحول عن العقلانية المفرطة الى الحدس و الكشف والنظر للمعرفة نظرة وجودية (العرفان ) ..
·
المهمة التنموية -ايًّا كانت - لا تنطلق من مكان لتصل الى آخر انها
استراتيجية مهمة لاحداث التوازن بين عوامل ومتغيرات شديدة التعقيد، ودور
التنمية يكمن في اعادة التوازن وفرز الوقائع عن الأباطيل، و تحقيق التوازن
بين الآنة "اللحظة الآنية " و المحتمل " النظرة الاحتمالية.
·
ضرورة تأهيل البرامج الثقافية لتكون فاعلة، فإنقاذ الثقافي من أزمته
والإعلامي من تكراره سيكون هو الأساس في إنقاذ السياسي من خرابه
الإيديولوجي، وبالتالي تهيئة العوامل الموضوعية للحديث عن تنمية ثقافية
فاعلة (انقلاب ثقافي ).
· التنمية البشرية تتطلب "وعيًا "
و تفترض وجود ذهنية منفتحة تتجاوز الغلو في الصورية وتتجاوز صفة الاطلاق
على الموضوعية ، فَدور التنمية يكمن في اعادة التوازن وفرز الوقائع عن
الأباطيل، و تحقيق التوازن بين الآنة "اللحظة الآنية " و المحتمل " النظرة
الاحتمالية "
· مهمة التنمية الثقافية ينبغي ان تنطوي على
ثقافة تؤسس لاحترام الانسان و"حقوق الكائنات البشرية بالدرجة الاولى وهو
يحتاج لجهد طويل ومنهج يهدف الى تنمية المهارات والملكات النفسية والروحية
والفكرية التي تتيح للفرد تبني اللاعنف كموقف وفي هذا السياق يقول جون
ماري مولر "إن تنمية ثقافة لاعنفية يعني البحث عن سُبُل تطبيق لاعنفي
لنفوذ السلطة autorité في جميع مواقف المَقْدرة pouvoir. وبهذا فإن ثقافة
اللاعنف تكف عن الفصل بين الحياة الخاصة والحياة السياسية، لا بل تتيح
الجمع بينهما أخيرًا في مناقبية واحدة. " وهذا يتطلب والعمل على عدم تسويغ
العنف وتفكيك أيديولوجيا الارهاب والعنف والكف عن تصوير "الاعمال
البطولية".
· التنمية الاعلامية تكون بالخروج عن دائرة
المردودية المالية المباشرة الى الوعي الذي يتُرجم عبر المصالح الانسانية
بحيث يضع في حسبانه أيضًا "المصلحة الروحية " للكائن الانساني ومصلحة
البيئة الطبيعية للكون ….
· تبني موقف انساني كوني كوكبي يتجاوز
الثقافات (يتخللها ويتخطاها في آن ) ويتجاوز التفسيرات الأحادية، ويدعم
التوجهات الليبرالية لحرية الكائن اللانساني، (ملاجظة : ان دعم الليبرالية
لا يريد ان ينحو بحال من الاحوال لان يكون على حساب انسانية الانسان بحيث
تتحول المادة نفسها اداة لحرمان الاخرين منها ويتحول الليبرالية أداة لسلب
الاخرين منها ويصبح السلام اداة لحرمان الاخرين منه …)
أخيرا و دومًا : فكرٌ مغاير !
ولو
ملّ القارئ من التكرار غير ان ما نحتاجه هو فكر مغايرتمامًا لا ينطلق من
مبدأ الفصل بل ينطلق من فهم الكون فهما داخليا عميقًا بوصفه جزء منا نحن
البشر وفهم وجودنا من خلاله و يطرح في الوقت نفسه تعدديةً تحل محل البعد
الواحد للفكر الكلاسيكي الامر الذي سينعكس في كافة المستويات الواقعية
سواء كانت تنمية بشرية ام سياسية ام اجتماعية …ام الاعلامية
وعلى
الرغم من الفوضى والضوضاء فإنني ككائن يؤمن بدوره كبنّاءٍ حرّ للحياة لم
يحتكره معتقد ولا يدعي امتلاك الفهم ولم يطرح نفسه كبديل " الهي " فإن
التنمية البشرية تتبلور عبر رؤية لا يكون الاعلام فيها الا وسيلة لتحقيق
مزيد من انسانية الانسان وكونيته واحترام جسده و حقوقه وحريته وتحقيق مزيد
من احترام البيئة والطبيعة والحفاظ عليها واحترام الكائنات بوصفها أحد أهم
التجليات الوجودية ، وإضفاء لغة أخرى لفلسفة تزودنا باستراتيجية فاعلة من
أجل الحياة .