إن اللَّبِنَة الأولى التي ضُربت في الأرض ـ فور وصول الرسول
ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إلى المدينة؛ كانت في بناء المسجد.
كان المسجد هو البناء الأول، والمؤسسة الأولى، والمدرسة الأولى، والجامعة الأولى،...
***
بل لما دخل النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قُباءَ ـ في بني عوف ـ ومكث فيها بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً،
لما يخرج منها إلا وقد أسس مسجد قباء، ذلكم المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى،
وقد أشار القرآنُ إليه بذلك، فقال الله تعالى :
"لَّمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ،
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ " [ التوبة108].
وركبُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ راحلته، من قباء إلى موضع المسجد النبوي في المدينة،
فبركت ناقته الكريمة في هذا الموضع، وقد كان قبلَ بناء المسجد عبارة عن مساحةٍ أشبه بمخزن مفتوح لخزن التمر،
وكانت هذه المساحةُ لغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي كفالة أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ المباركة :
" هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ! " [ البخاري : 3616 ].
ثم دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغلامين؛
رغبةً منه في شراء هذه القطعة منهما لتيخذها مسجدًا؛ فَقَالا : لا؛ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛
فَأَبَى صاحب الخُلق الكريم أَنْ يَقْبَلَهُا مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُا مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُا مَسْجِدً
ا[ انظر: البخاري : 3616 ].
***
ثم طفق رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
في إعداد قطعة الأرض هذه وتجهيزها للشروع في إقامة المسجد.
وعملية التجهيز هذه هي :
ـ قطع النخيل الموجود على هذه المساحة .
ـ إزالة قبور قديمة كانت للمشركين.
ـ تسوية الخِرب، وكانت بقايا مساكن قديمة.
***
وبدأت أعمال البناء، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ينقل الحجارة بنفسه مع أصحابه، ويقول :
" اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ"
[ البخاري : 3616 ]
يُسلي بها أصحابه، ويحمسهم ، وقد كانت هذه سنته في أعمال البناء أو الحفر، وقد فعل مثل ذلك في حفر الخندق؛
يُشاركهم بيده في الحفر، ويشاركهم بلسانه في ترديد الأناشيد؛ غير أنه ـ بأبي هو وأمي ـ لا يعرف الشعر، عمد،
وقد قال فيه ربه جلا وعلا:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ }يس69
تخيل نفسك وأنت تشاركه في بناء المسجد، يحمل كما تحمل، ويصنع كما تصنع، وفوق ذلك هو يحمسك ويلاطفك بأسلوبه العذب الفكه،
وقد كان لطيفًا، بسّام المُحَيّا، سهلاً سمحًا، لين العريكة، يضع اللبنة بيده بينما ينظر إليك ويرتجز قائلاً :
"هَذَا الْحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَرْ .. هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ "
يعني، هذا المحمول من قطع اللبن هو خيرٌ عند الله وأبر وأطهر من ثمار خيبر،
أي، لا تبالي بشظف المدينة، ولا تحزن أنْ متع اللهُ الكافرَ بالنعمة، بينما المؤمن يكابد الفقر والحاجة .
ولعمر الله، لعله قال ذلك بمناسبة قطع هذه النخيل التي كانت مكان المسجد، فلئن خسرنا شيئًا
من ثمرات هذه النخيل؛ فإن الثمرة الباقية الطاهرة هي في هذه اللبنات، هي ثمرةٌ خيرٌ من ثمار خيبر،
هي ثمرةُ ربنا وهي أبر وأطهر، فهي لبنات لتأسيس مسجد سيتخرج فيه قادة العالم، وسادة الدنيا؛ تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم .
***
فيقول أحدهم ردًا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
لئن قَعَدْنا والنبي يَعْمَل ** لذاك مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّل
هذا النبي الكريم، وهو في سن الثلاثة والخمسين، قد التف الشباب من حوله؛ جُلهم تحت سن الثلاثين،
وهو يعمل معهم، يدًا بيد، لا يأنف ولا يستنكف،
وهذه الصورة وحدها تجعلك تستحي أن تتوقف عن العمل لحظة واحدة،
هذا المشهد دفع هذا القائل إلى هذه القولة مبديًا حالة الضلال التي ستنال القاعد والنبي يعمل .
فرد عليه المسلمون هم يبنون :
لا عَيْشَ إلا عَيْشَ الآخِرَهْ ... اللّهُمّ ارْحَمْ الأنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
لقد أبرمنا البيعة، وعقدنا الثفقة، وتاجرنا مع الله تعالى، فلا عيش إلا عيش الآخرة،
ما لنا وثمار خيبر، أو تمر هجر، ذبيب الشام، نحن باعينا على الجنة .
***
وتجلت أخلاق التواضع الإسلامية في هيئة المسجد النبوي، فلم يُزخرف ولم يصفر ولم يُحمر،
بل كانت أرضه الحصباء، وسقفه الجريد، بل لم يكن مسقوفًا كله،
فجزء به سقف وجزء من غير سقف، وقد كان الجزء المسقوف يُسمي الصُفة، يجلس تحته فقراء المسلمين.
***
وتشاور النبي ُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مع أصحابه في إيجاد وسيلةٍ إعلامية لجمع الناس عند كل صلاة، وطفقوا يعرضون أفكارهم ومقترحاتهم،
وكأنما أحسوا بلذة عبادة التفكير من أجل دين الله،
فمنهم من اقترح رفع راية عالية ليراها الناس عند كل صلاة فيجتمعوا في المسجد،
ويبدوا أن صاحب هذه الفكرة صنديدٌ له ميولٌ عسكرية شديدة،
جعلته يفكر في ذلك تأسيًا بالراية التي تجمع الجند حولها..
وآخر يقترح إشعال النيران على مرتفعٍ من الهضاب يراها الناس، وهي فكرة تحاكي طريقة المجوس،
ولعل صاحبنا هذا صاحب هذه الفكرة..
وثالثٌ اقترح فكرة البوق الإعلامي؛ حيث يُنفخ فيه عند كل صلاة، وهي طريقة اليهود في معابدهم،
وكانت جميع هذه المقترحات مرفوضة مردودة لعلةٍ واحدة؛ هي التقليد،
فالمسلمون ينبغي أن يكونوا متميزين، لهم خصوصياتهم،
ولاسيما في الأمور التعبدية، لذا كان المقترح المقبول الذي
أيده الله من السماء هو ذلك المقترح الجديد الذي لم يسبق إليه أحد، ذلك هو الأذان.
وارتبطت هذه الفكرة بعبدالله بن زيد صاحب الفكرة، وقد نام ليلتها مهمومًا مشغولاً بهذه القضية،
يريد هو الآخر أن يقدم فكرته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ،
وقد علمتَ أن الرؤى والأحلام هي جزءٌ من اهتمامات الإنسان،
فمن أهمه شيءٌ؛ فكثيرًا ما يَرى رؤيا تتعلق بما أهمه، كمن نام على ظمإٍ فرأى مروجًا وأنهارًا،
أو كالذي نام على شوقٍ لأخ من إخوانه فرآه في المنام،كذا، هذا الصحابي الجليل نام على هم الأمة،
ورقد إلى فراشه وقد أثخنته مشكلات رسالته، وقد أرقته كثيرًا هذه القضية، كيف نجمع الناس للصلاة ؟
فلم يتكل على اقتراحات المقترحين،
بل لم ينتظر أن يتنزل في هذا الشأن آيات بينات أو حسمًا سريعًا من النبي نفسه وهو الذي يأته الوحي من السماء،
ولم يقل مثلاً :
" البركة في إخواننا نتركهم يفكرون ويخططون، فهم أكثرُ منا فهمًا، وأعلى منا كعبًا، وأسبق منا قدمًا"..
وغير ذلك من كلام السلبيين الوادعين الحالمين.
إن هؤلاء الرجال كانوا على قدر عالٍ من الشعور بالمسئولية نحو دينهم ودعوتهم وأمتهم،
رغم أن الله متعهم بحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
إن هؤلاء الرجال كانت لهم طبيعة عجيبة في أخلاق الإيجابية النشطة، وسلوكيات الذاتية المتفردة.
لقد كانوا أصحاب مخترعات وابتكارات ..
كانت لهم فطرة سليمة، وطريقة رشيدة، وجبلة موزونة، كان لهم ذكاء وقاد،
وفكر ثاقب، وبصيرة مبصرة، وألمعية مهذبة، وهمة عالية.