الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واعترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ــــ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ
يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا. صححه الألباني
قال الشيخ العظيم آبادي رحمه الله: ( مِمَّا يُبْتَغَى ) مِنْ لِلْبَيَانِ ، أَيْ : مِمَّا يُطْلَبُ ( بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ) أَيْ : رِضَاهُ ( لَا يَتَعَلَّمُهُ
) حَالُ إِمَّا مِنْ فَاعِلِ تَعَلَّمَ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ لِأَنَّهُ
تَخَصَّصَ بِالْوَصْفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِعِلْمًا ( إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ ) أَيْ : لِيَنَالَ وَيُحَصِّلَ بِذَلِكَ الْعِلْمَ ( عَرَضًا ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ : حَظًّا مَالًا أَوْ جَاهًا ( عَرْفَ الْجَنَّةِ
) بِفَتْحِ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ مُهْمَلَةٍ الرَّائِحَةُ
مُبَالَغَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ رِيحَ
الشَّيْءِ لَا يَتَنَاوَلُهُ قَطْعًا ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ
يَسْتَحِقُّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَوَّلًا ثُمَّ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى كَأَمْرِ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ كُلِّهِمْ إِذَا مَاتَ عَلَى
الْإِيمَانِ . قَالَهُ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ .[1]
قال الشيخ ملا علي القاري رحمه الله: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ) : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) . ( مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى ) : مِنْ لِلْبَيَانِ ، أَيْ : مِمَّا يُطْلَبُ ( بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ) أَيْ : رِضَاهُ كَالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ ( لَا يَتَعَلَّمُهُ ) : حَالٌ إِمَّا مِنْ فَاعِلِ تَعَلَّمَ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ ، لِأَنَّهُ تَخَصَّصَ بِالْوَصْفِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِ " عِلْمًا " ( إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ ) أَيْ : يَنَالَ وَيُحَصِّلَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ ( عَرَضًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ : حَظًّا مَالًا أَوْ جَاهًا ( مِنَ الدُّنْيَا ) : يُقَالُ : الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، وَنَكِرَةٌ
لِيَتَنَاوَلَ الْأَنْوَاعَ وَيَنْدَرِجَ فِيهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ،
وَفِي الْأَزْهَارِ : الْعَرَضُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ الْمَالُ ،
وَقِيلَ : مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ ، وَقَالَ الْجِيلِيُّ : الْعَرْضُ
بِالسُّكُونِ أَصْنَافُ الْمَالِ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ،
وَبِحَرَكَةِ الرَّاءِ جَمِيعُ الْمَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْعُرُوضِ كُلِّهَا ، كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ . قَالَ الطِّيبِيُّ : وَفِيهِ أَنَّ مَنْتَعَلَّمَ لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى مَعَ إِصَابَةِ الْعَرَضِ الدُّنْيَوِيِّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ لِأَنَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى يَأْبَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا ، وَيَكُونَ الْعَرَضُ
تَابِعًا ، وَوَصْفُ الْعِلْمِ بِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ إِمَّا
لِلتَّفْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ فَإِنَّ بَعْضًا مِنَ الْعُلُومِ مِمَّا
يُسْتَعَاذُ مِنْهُ كَمَا وَرَدَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، وَإِمَّا
لِلْمَدْحِ وَالْوَعِيدِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ ،
وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الزَّاهِدِينَ يَقُولُ : مَنْ طَلَبَ
الدُّنْيَا بِالْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ
مِنْ أَنْ يَطْلُبَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ ، فَهُوَ كَمَنْ جَرَّ
جِيفَةً بِآلَةٍ مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ ، وَذَلِكَ كَمَنْ جَرَّهَا بِأَوْرَاقِ تِلْكَ الْعُلُومِ ا هـ .
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ
رَأَى شَخْصًا يَلْعَبُ فَوْقَ الْحِبَالِ فَقَالَ : إِنَّ هَذَا خَيْرٌ
مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا
وَأَصْحَابُنَا يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ا هـ .
لَكِنْ قَالُوا : فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَأْخُذُ الدُّنْيَا لِيَتَفَرَّغَ
لِعَمَلِ الْآخِرَةِ ، وَبَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْآخِرَةِ
لِيَأْخُذَ الدُّنْيَا فَتَأَمَّلْ . فَإِنَّهُ مَوْضِعُ
الزَّلَلِ ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَوْصَافِ ، أَيْ : لَا
يَتَعَلَّمُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ
شَيْئًا مِنْ مُتَمَتِّعَاتِ الدُّنْيَا وَإِنْ قَلَّ وَمِنَ الْمَعْلُومِ
أَنَّ قَصْدَهَا هَذَا وَلَوْ مَعَ قَصْدِ الْآخِرَةِ مُوجِبٌ لِلْإِثْمِ
، فَوَجْهُ التَّقْيِيدِ تَرَتَّبَ الْعِقَابُ الْآتِي عَلَيْهِ ،
أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الدُّنْيَا لَا يَقْصِدُ
مَعَهَا الْآخِرَةَ ( لَمْ يَجِدْ ) : حِينَ يَجِدُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ مَكَانٍ بِعِيدٍ ( عَرْفَ الْجَنَّةِ ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ رِيحَهَا الطَّيِّبَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِأَنْ تُوجَدَ
مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ (
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي ) : هَذَا تَفْسِيرُ الرَّاوِي ( رِيحُهَا )
.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ : قَدْ
حُمِلَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْرِيمِ الْجَنَّةِ
عَلَى الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الْوَعِيدِ كَقَوْلِكَ : مَا شَمَمْتُ قُتَارَ
قَدْرِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّبَرُّؤِ عَنْ تَنَاوُلِ
الطَّعَامِ أَيْ : مَا شَمَمْتُ رَائِحَتَهَا فَكَيْفَ بِالتَّنَاوُلِ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْمُخْتَصَّ بِهَذَا الْوَعِيدِ إِنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
عُرِفَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ ، فَتَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ
يَكُونَ تَهْدِيدًا وَزَجْرًا عَنْ طَلَبِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ
الْآخِرَةِ ، وَأَيْضًا يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ مَوْصُوفٌ ، وَذَلِكَ
مِنْ حِينِ يُحْشَرُ النَّاسُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِمُ
الْأَمْرُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ ، وَلَا يَلْزَمُ
مِنْ عَدَمِ وِجْدَانِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَطْ عَدَمُ وِجْدَانِهَا
مُطْلَقًا ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْآمِنِينَ مِنَ الْفَزَعِ
الْأَكْبَرِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ إِذَا وَرَدُوا الْقِيَامَةَ
يُمَدُّونَ بِرَائِحَةِ الْجَنَّةِ تَقْوِيَةً لِقُلُوبِهِمْ
وَأَبْدَانِهِمْ ، وَتَسْلِيَةً لِهُمُومِهِمْ وَأَشْجَانِهِمْ عَلَى
مِقْدَارِ حَالِهِمْ فِي الْمَعْرِفَةِ وَإِيقَانِهِمْ ، وَمَنْ
تَعَلَّمَ لِلْأَغْرَاضِ الْفَانِيَةِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا
يَتَعَلَّمَهُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يَكُونُ كَمَنْ حَدَثَ
مَرَضٌ فِي دِمَاغِهِ يَمْنَعُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الرَّوَائِحِ
فَلَا يَجِدُ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَغْرَاضِ
الْمُخْتَلِفَةِ بِالْقُوَى الْإِيمَانِيَّةِ .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : هَذَا الْوَعِيدُ مُطْلَقٌ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْقَصْدِ فَقَطْ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ
وَمَفْهُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ فَتَعَلَّمَ لِلَّهِ
لَا يَضُرُّهُ حُصُولُ الدُّنْيَا لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهَا
بِتَعَلُّمِهِ ، بَلْ مِنْ شَأْنِ الْإِخْلَاصِ بِالْعِلْمِ أَنْ تَأْتِيَ الدُّنْيَا لِصَاحِبِهِ رَاغِمَةً ، كَمَا وَرَدَ : " مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَتَأْتِيهِ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " : ( رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ : " مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " .[2]
والله أعلم
______________________________ _________
[1]عون المعبود شرح سنن أبيﺩاود » كتاب العلم » بَاب فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى » 3664
[2]مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح » كتاب العلم » 222