كتبه/ ياسر برهامي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن قراءة التاريخ قراءة إيمانية حاجة ضرورية للإنسان؛ لكي تحصل له البصيرة؛ ليعلم عاقبة الأحداث التي يراها أمامه، فإن لله سنة في خلقه (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43)؛ ولكي يحصل له اليقين بوعد الله، وأنه الحق الذي لا يخلف؛ وليتعظ بمن سبقه، ويتذكر حقائق الإيمان التي هي عند أهل الإيمان كالشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب.
وعندما تحصل له هذه المعاني يحدد مواقفه بناءً على موازين السماء لا على موازين الأرض، ويثبت على الحق، ويبذل كل طاقته في السير على طريقه دون توانٍ، متوكلاً على الله، مستعينًا به، ليرضي الله؛ ولو سخط الناس، فيرضى الله عنه ويرضي عنه الناس، وعند ذلك يكون الزمن في صالحه، والانتظار سبيلاً لحل كثير من المشكلات والموازنات التي لا يعرف لها حلاً، ولا يحسن لها وزنًا، قال الله -تعالى-: (وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ . وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ . وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (هود:120-123)
"
وعندما تحصل له هذه المعاني يحدد مواقفه بناءً على موازين السماء لا على موازين الأرض، ويثبت على الحق
"
.
إن جريان الحياة بشكل روتني مدة طويلة في حس البشر يجعل كثيرًا من الناس يظن -وأحيانًا يتأكد، وربما أقسم- أنها ستستمر كذلك إلى ما لا نهاية، وأن موازين القوى ستبقى هكذا لصالح الأقوى المُمَكَّن، قال الله -تعالى-: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ . وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) (إبراهيم:44-45)؛ فعند ذلك ينسى أيام الله، ويفقد الاتعاظ والتذكر للحظات وأيام معدودة، لكنها غيرت وجه التاريخ وموازين الأرض، أعز الله فيها مَن شاء بطاعته، وأزل مَن شاء بمعصيته، ومكَّن للمستضعفين، وكسر الجبارين، وآتى ملكَه مَن شاء، ونزعه ممن شاء، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم:5).
قص الله علينا قصة قوم نوح -عليه السلام-، وكيف بقوا في حياتهم الروتينية تسعمائة وخمسين عامًا في الظلم والطغيان، ثم جاءت أيام الطوفان؛ فتغير وجه الحياة على الأرض، وانتصر الله للمغلوب المتضرع الداعي؛ نوح -عليه السلام-.
وقص علينا قصة عاد قوم هود -عليه السلام- الذين لم يخلق مثلهم في البلاد، وكانوا القوى العظمى الوحيدة دون منازع (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) (فصلت:15)، ثم جاءت سبع ليال وثمانية أيام حاسمة من الريح الصرصر العاتية؛ فغيرت وجه الحياة، ونصر الله هودًا والذين آمنوا معه.
وقص علينا قصة ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وآثارهم أقدم من آثار الفراعنة، وقصورهم في صخور الجبال منحوتة، لا تزال إلى يومنا باقية، ثم جاء يوم الصيحة، والرجفة التي جعلتهم كهشيم المحتظر.
وقص علينا قصة قوم لوط -عليه السلام- في فجورهم وفحشهم الذي لم يسبقهم به أحد من العالمين، ثم جاء صبح يوم جعل الله عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.
وقص علينا قصة فرعون وكيف بقي سنوات وعقودًا يَستضعف بني إسرائيل؛ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق، حتى جاء يوم غرقهم في لحظات، كان قبلها مباشرة يجزم أصحاب موسى -عليه السلام- أنهم لمدركون!
نقول لكل الطغاة ولمن يدور في فلكهم ينفذ مخططات الأعداء؛ محاولاً تمزيق الأمة وتدميرها، يبيع دينه ووطنه ومواطنيه بالثمن البخس! يستحل الدماء المعصومة، ويستسهل الفوضى، ويستهدف التخريب، وينتهك الحرمات، ويحارب شرع الله، ويتصور أنه سيتمكن من مقصوده، نقول لهم في سوريا، وفي فلسطين، وفي العراق، وفي أفغانستان، وفي القوقاز، ونقول لأذنابهم في بلادنا وفي كل مكان: تذكروا أيام الله، تذكروا ملك مَن سبق، وقد كان ذا أوتاد!
والسعيد مَن وعظ بغيره، ومن يغالب الله يُغلب (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).