محمود كحيل
مدرسة الكاريكاتير السياسي العربي
ولد الفنان محمود كحيل في
مدينة طرابلس (شمال لبنان) سنة 1937 ميلادي، وتلقى علومه الأولية فيها.
انتقل بعد ذلك إلى بيروت ودرس في الجامعة الأمريكية هناك. لمعت عنده موهبة
الرسم والإخراج الفني واحترفها بعدما صقلها بالعلم والمعرفة. عمل في مجلة
"الحسناء" فترة من الزمن حيث انفرد بطابع خاص وأسلوب مميز في طريقة الرسم،
وفي الأشرطة الإخبارية الكاريكاتورية قبل عروض الأفلام في دور السينما.
مارس كحيل التدريس الجامعي في مادة الإخراج الصحفي حيث عرف آنذاك وانتشر
اسمه بين الأوساط الثقافية اللبنانية. انتقل محمود كحيل إلى لندن بعد
اندلاع الحرب اللبنانية، وابتدأ مشواره الفني مع"الشرق الأوسط" و " عرب
نيوز" ثم مجلة"المجلة" واستمر على ذلك إلى أن وافته المنيّة على أثر عملية
جراحية في 11 فبراير (شباط) عام 2003 م عن عمر يناهز66. صليّ على جثمانه
في مسجد ريجينت بارك بلندن ودفن فيها.عرف رحمه الله بالكرم والنبل
والشهامة والهدوء في التعامل.
لم
ترحل خطوط الفنان الكبير محمود كحيل مع رحيله، إنما بقيت منقوشة في ذاكرة
التاريخ، وفي ذاكرة قراءه ومحبيه أيضاً. لقد أرسى كحيل أركان فن
الكاريكاتير السياسي ودعّم قواعده بكل جدارة واقتدار خلال مسيرته الطويلة.
ورغم ابتعاده عن الكاريكاتير الاجتماعي والرياضي إلا أنه انصرف كلية - عن
رضى منه وقناعة- إلى هموم الأمة وقضاياها ومشكلاتها إدراكاً منه بالأهمية
القصوى لتلك القضايا، ولكي يؤدي واجبه ودوره كمواطن عربي أصيل وفنان ملتزم
يعيش همّ الأمة ويعاني مآسيها، فكان يقدم كل صباح ومع إطلالة كل عمل
جديد.. وجبة شهية دسمة تتناول الجديد و المبدع، يلقي الضوء من خلالها على
جانب مثير و مهم من جوانب قضايانا العربية الكثيرة، التي
مازلنا نعايشها ونعيش بين حطامها وأنقاضها إلى اليوم. ورغم أن موضوعات
القضايا تتكرر في أعماله، إلا أنها كانت في كل مرّة تلبس حلة جديدة وثوب
مختلف، فيطرح رؤى جديدة ويسلط الضوء فيها على جوانب مظلمة لم يكن قد
تناولها قبلاً في أعماله.
رحل
فناننا الكبير.. لكنه ترك إرثاً فنياً كاريكاتورياً ضخماً أضاف الكثير
للثقافة العربية، والفن العربي. مئات الرسومات التي مازالت حيّة إلى اليوم
تنبض بروح قضيتها. هاك على سبيل المثال قضية الاحتلال الإسرائيلي في
فلسطين، ومآسي الكثير من العائلات الفلسطينية المشرّدة في الشوارع
والطرقات من نساء وأطفال وعجائز، وتلاعب الإسرائيليين وتهميشهم لقرارات
الأمم المتحدة والأسرة الدولية، وهاك على سبيل المثال أيضاً عنجهيات الدول
العظمى واستبدادها وهيمنتها على دول العالم الثالث.. إلى غير ذلك من
القضايا التي لا تنفصل عنا بزمن معين. لقد بقيت أعمال محمود كحيل تحمل
مادة الحياة في طياتها، تنبض بروح القضية وبوجدانها. تـُرجمت
العديد من أعمال الفنان الراحل إلى عدة لغات.. وانتشرت إبداعاته في أرجاء
المعمورة، تتداول بين القرّاء في كل مكان وفي كل زمان، من العربية إلى
الإنجليزية إلى الأردية.. لقد كانت - ومازالت- أعماله تحاكي وتعبر عن هاجس
الإنسان العربي.. وتحاكي هاجس الإنسان المسلم على وجه الخصوص، الذي عانى
طويلاً من ويلات القهر والاستبداد والدمار. وقصد في أعماله الكثير من
السياسيين، وبعض ما سماهم بتجار الحروب أو تجار السياسية الذين يجدّون
العمل من أجل التسويق للحرب بطريقة تحمل الكثير من اللاإنسانية طلباً
منهم للكسب المادي والثراء. لقد تناول كحيل في أعماله الكثير من السياسيين
كما قلت، فمن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير.. إلى بنيامين
نتنياهو..إلى شارون..إلى الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ريغان، فيدل
كاسترو(الرئيس الكوبي)، ميخائيل جورباتشوف (رئيس الاتحاد السوفيتي
سابقاً)، كورت فالدهايم (الرئيس الأسبق لهيئة الأمم المتحدة) وغيرهم
كثيرون. تناول فناننا الكبير هؤلاء بكثير من الرقيّ في الطرح من حيث
الفكرة ومن حيث المضمون، ولم يكن تناوله إياهم بطبيعة الحال تشهيراً بهم
أو تناولاً لشخوصهم، إنما ناقداً أو مؤيداً لسياساتهم وقراراتهم التي كان
لها أثر مباشر على مصالح الأمة العربية. ونجده في أحيانٍ أخرى يطرح رأيه
الشخصي تجاه قضية عالمية أخرى برزت على الساحة السياسية في وقتها ولم تمت
إلى عالمنا العربي بصلة، ومع ذلك تناولها بريشة قلمه الساخر.. إيماناً منه
بدور فنان الكاريكاتير الملتزم الذي يطرح رأيه ويقول كلمته في أي موضع كان.
أبدع
كحيل في رسوماته، كما أبدع أيضاً في تجسيد شخصية فريدة ظلت تطل على
القرّاء كل صباح فترة طويلة من الزمن.. إنها شخصيّة (العالم العربي) تلك
الشخصية التي حملت كل التناقضات من قوة وضعف، ثبات وتقهقر، مواجهة وفرار،
أفراح وأتراح، تطلعات وآمال تجسدت على هيئة رجل واحد، جسمه جسم الرجل
العادي ورأسه الكرة الأرضية!.. تظهر فيها معالم الشرق الأوسط، وجعل له
شارباً كثيفاً، يلبس الغترة البيضاء كدلالة على العروبة
وعلى الأصالة. لقد وظف كحيل هذه الشخصية في أعماله على خير وجه وتناولها
بكثير من العطف، وبكثير من القسوة في بعض الأعمال. وأدخل هذه الشخصية في
عمق الصراع داخل اللوحة الكاريكاتورية، فكانت - هذه الشخصية- تقف
أحياناً موقف الضعيف المسكين المغلوب على أمره أمام القوى الأخرى، أو موقف
الناقد المستنكر للكثير من القرارات الدولية المجحفة بحق العالم العربي
والقضية العربية. أو موقف الرجل القوي الراسخ القدم كدلالة على قوة المبدأ
و على قوة العقيدة، وأن العالم العربي سيصمد أمام كل التحديات وسيواجه كل
الصعوبات.. بعزيمة صادقة وهمّة عالية مهما طال به الزمن أو قصر. ووضعه في
أحيانٍ أخرى موقف الساذج المتخلف كدلالة على مستوى الجهل والتخلف والأمية
في غالبية بلدان العالم العربي. أن هذه الشخصية الرائعة - التي افتقدناها
كثيراً- استمرت طوال مسيرة كحيل الفنية، وعبّر من خلاها أبلغ تعبير وأدق وصف عن عمق القضايا العربية والإسلامية. كما جسّد هموم الأمة وحالها بجلاء من خلال هذه الشخصية المبدعة.
اتخذ
محمود كحيل أيضاً رمزاً صغيراً له (الغراب) يرسمه في زوايا اللوحة كدلالة
على التشاؤم من الوضع العربي الذي وصل إليه، وأصبح هذا الغراب ملازمٌ
لفناننا في أعماله ورسوماته، وربما قصد فيه عن حالته النفسية السيئة كعربي
يمر بظروف صعبة جّراء الكثير من المحبطات التي تلفه ويعيش فيها.. من عجز
وفقر وقهر واحتلال.. قطعاً لم يعيشها ويتذوق مرارتها
الإنسان الآخر.. الأوروبي أو الأمريكي أو أي مواطن يعيش خارج بلداننا
العربية. ونرى هذا الغراب يطل من زاويته الصغيرة - أسفل اللوحة- على شخوص
وأحداث اللوحة، فيدعمها ويقف إلى صفها.. أو يلوذ بالفرار! أو يكون محبطاً
يحكم "القفل" منقاره الصغير! فلا يستطيع التكلم، أو يكون سيئاً يقتسم
الغنائم مع المقتسمين! أو يعيش حالة السقوط أو الهلع أو السخط كما تعيش
شخوص اللوحة وتعاني. الكثير الكثير من المعاني التي يتركها ذلك الغراب،
فتعطي انطباعاً إضافياً في نفس القاريء عن موضوع اللوحة، ومهما يكن من أمر
فإن هذا الغراب أطل على القرّاء في لوحات.. وغاب عنهم في لوحات أخرى..
ولعل كحيل قصد بهذا الأسلوب معنى جديد وألمح على مغزى معين كتهميش الغراب
لهذه القضية، أو أصابه الملل واليأس من هذه القضية أو تلك، أو
غاب كغياب العرب وانصرافهم عن قضاياهم المهمة. غاب عنا كحيل، وطار الغراب
بعيداً عن صفحات الصحف والمجلات، وترك وراءه فراغاً كبيراً يصعب- من وجهة
نظري- أن يملأه فنان آخر غير محمود كحيل نفسه!.
منقول