اللغة بين القرار والتطبيقالمصدر: لفت
انتباهي خبر نشره بعض الصحف المحلية قبيل أيام، عن قرار فرض غرامة مالية
قيمتها عشرة آلاف ريال قطري، على الفنادق والمطاعم التي لا تعتمد اللغة
العربية لغة رئيسية في تواصلها مع الجمهور والزبائن، وذلك في قوائم
الطلبات والخدمات المقدمة والفواتير. ولم يشر القرار إلى ما يتعلق
بالتواصل الشفوي، ولكن يمكن أن يُفهم ضمنًا أنه داخل ضمن القرار الذي يفرض
هذه الغرامة المرتفعة على المكتوب، فلا بد أن يكون للمنطوق نصيب أيضا.
الحمد لله أننا عشنا وشهدنا هذا اليوم الذي أصبح فيه عدم استخدام اللغة
العربية يساوي خسارة عشرة آلاف ريال، ولا أعرف إن كان هذا مفرحاً فقط، أو
أن له وجهًا آخر نقيضًا، لكني سأحاول أن أنظر إلى النصف الممتلئ من الكوب،
وأكتفي ـ حاليا على الأقل ـ بالوجه المفرح فقط؛ فأن نعود إلى لغتنا،
ونعترف بها وبأهميتها في إثبات وجودنا وكينونتنا، حتى إن كانت العودة
متأخرة قليلا أو كثيرًا، أفضل من ألا نعود أبدا، وأن نستمر في تجاهلها،
وفي التعامل معها بوصفها عبئًا ثقيلا علينا.. نسعد جدا بالتخفف ـ أو
التخلص ـ منه كلما سنحت لنا فرصة.
ولكن هل يكفي فرض مثل هذه
الغرامات على المطاعم والفنادق كي يدرك الناس أهمية التمسك باللغة الأم؟..
ثُم، ألا توجد أماكن أخرى تُهمَّش فيها اللغة العربية غير هذين المكانين؟
ألح عليّ هذا السؤال بأشكال مختلفة وأنا أطالع الخبر المنشور في الصحيفة؛
فهل تستخدم الدوائر الحكومية عندهم اللغة العربية فقط، وتحديدًا اللغة
العربية السليمة، الخالية من الأخطاء المضحكة المبكية التي نجدها حولنا في
كل مكان، وكأنها ليست لغتنا الأم.. وكأننا لا نعرفها ولا ننطق أساسا بها،
لذلك يقوم بترجمة نصوصها عن الإنجليزية نفر ممن يعرفون العربية
والإنجليزية معًا على نحو أفضل من غيرهم؛ أي أنهم أفضل الموجودين كما
يُقال! هذا ما لمسناه بعد قرار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم،
حفظه الله، باعتماد اللغة العربية لغة رسمية في الدولة، وهو ما رأيناه رد
اعتبار للغة العربية التي هُمشت في دارها وبين أبنائها، وصرنا منذ ذلك
الوقت نهتم بالبحث عن نسخة عربية من أي ورقة أو وثيقة في أي دائرة أو
مؤسسة حكومية نتواصل معها لأي غرض، ولكن المؤسف هو أن النسخ العربية
غالبًا ما تكون غارقة في الأخطاء النحوية والإملائية، بالإضافة إلى ركاكة
الأسلوب الناتج عادة عن ترجمتها عن نص أجنبي، وعدم كتابتها ابتداء باللغة
العربية، مع عدم تمكن المترجم من اللغة العربية، وربما من اللغة التي ينقل
عنها أيضًا! وبهذا.. يصبح الأمر ظاهريًا متماشيًا مع سياسة الدولة باعتماد
اللغة العربية لغة رسمية في البلد، ولكنه في حقيقة الأمر، تشويه للغة
وتحايل على القرار وتشويش لأذهان الناس المشوّشين أساسًا في كل ما يتعلق
باللغة العربية، وتزيدهم مثل هذه الأوراق والوثائق سيئة الترجمة، تشوشاً
ونفوراً من النص العربي الذي يحتاج إلى قراءة النص الأجنبي المقابل كي
يُفهَم!
إن قرارات استخدام اللغة
العربية في دولة ما، تأتي عادة من جهة عُليا، تدرك أهمية التمسك باللغة
الأم في تعزيز الإحساس بالهوية الوطنية، حيث إن اللغة واحد من أهم
روافدها، ولكن تحويل القرار إلى واقع هو مسؤولية الشعب، ومسؤولية كل فرد
فيه، وعلى كل فرد أن يشعر أن هذه المسؤولية ملقاة فوق عاتقه وحده، وأنه هو
ـ شخصيًا ـ مكلف بتطبيق هذا القرار دون أي شخص آخر في بلده، وعلى كاهله
تقع مسؤولية تحويله من قرار مكتوب على ورق، إلى واقع معاش يمثل حياة مجتمع
كامل، ويؤسس لمستقبله.
لذلك لا يمكن الاكتفاء
بالقرارات الحكيمة السليمة إن كان التطبيق سيجيء عقيمًا، ومن المهم أن
تكون هناك حلقة تصل بين القرار والتطبيق، تساعد على تحويله من حيز القوة
إلى حيز الفعل، وهذا هو دور المفكرين والمثقفين والأدباء، إن كانوا ممن
يحملون همّ اللغة أيضًا، وليسوا مجرد أقلام مفرغة لا همّ لها سوى نشر
فراغها على الورق، وإعطاء نفسها حجمًا أكبر من حجمها الحقيقي.
إن المثقفين والمفكرين
والأدباء الحقيقيين، هم الوحيدون القادرون على تحويل الرمال إلى تبر،
والقادرون على انتشال أي مجتمع من أي وحل يغرق فيه، لأنهم عقله المفكر
وضميره الحيّ، وهم له بمثابة العينين والأذنين واللسان، ولكن نجاحهم مرهون
بمدى اعتراف مجتمعاتهم بهم، وثقتهم بقدراتهم، وإيمانهم بدورهم وتأثيرهم.
أما إن كانت مجتمعاتهم لا تعترف أو لا تثق أو لا تؤمن بهم، فأي محاولة
منهم للإصلاح ستضيع وتذهب أدراج الرياح، ولنا في واقع الحال عبرة لمن أراد
أن يعتبر