يعيش العالم مع مطلع القرن الواحد والعشرين على وقع ثورة في مجال تكنولوجيات الاتصال،إذ تُعد القفزات المذهلة التي خطاها حقل الاتصالات ملحمة العصر الراهن دون منازع. فقد
حرر البث المباشر المشاهدين من الانكفاء حول البرامج المحلية وفتح لهم
بدائل واسعة لتجسيد أذواقهم وميولا تهم،مما جعلهم يندفعون وبشراهة أحيانا
للإقبال على ثقافة الآخر المغاير أو المساير،والتفتح على ضروب مختلفة من
المعارف والمعلومات التي أضحت تتيحها حضارة الصورة ويوفرها مجتمع المعلومة.
وعلى
الرغم من أن القنوات العربية سجلت حضورها ضمن هذا الزخم من الفضائيات
المتعددة المشارب الفكرية والإيديولوجية،إلا أن هذا الحضور يكاد يكون حضور
وسيلة أكثر منه حضور رسالة.فالهيئات المُتنفذة في العالم العربي الإسلامي
تنفق بسخاء على القنوات كوسيلة ويتردد الكثير منهم في دعم القنوات كرسالة
حضارية، بكل ما تحمله من أبعاد فكرية وثقافية،ولا نبالغ إذا قلنا أن بعض
القنوات الفضائية في العالم العربي الإسلامي تقدم مضامين تُسيء إلى
المبادئ الثقافية للمجتمع العربي الإسلامي, وخادمة في الآن نفسه للاتجاهات
الرامية إلى تذويب الهوية العربية الإسلامية في الكيان الغربي،ذلك أن بعض
القنوات لا تختلف في مضامينها-إذا ما استثنينا منها القرآن الكريم وبعض
الحصص الدينية،عن القنوات الغربية بمعنى أنها فاقدة للتميز، ومعتمدة على
المحاكاة والتقليد، كأسلوب لتحقيق الجماهيرية والنجاح في نظرها.
وهذا
يعكس بوضوح غياب رؤية عربية واضحة ودقيقة في مجال البث الفضائي،إذ أن
إستراتيجية من هذا القبيل كفيلة باستثمار هذا التطور التقنوي لصالح نشر
الثقافة العربية- الإسلامية ،ومجابهة كل المحاولات والأفكار الرامية
للانتقاص من قيمة الثقافة العربية والحضارة الإسلامية.
إن
إدخال الثقافة إلى حلبة الصراع العالمي جعلها تقفز لتكون في صدارة
المواجهة ضمن المشهد السمعي -البصري العالمي.وهو ما يُجسد الوعي المتزايد
بأهمية وخطورة الفعل الثقافي كآلية من آليات الصراع على الصعيد
الكوني،فالمجتمع الإعلامي الوليد يتخذ من العامل الثقافي محور ارتكازه
الأساسي.
ومن ثمة فإن ضمان الحُضور
المُشرف لثقافتنا في عصر الثورة الرقمية ،لن يتأتى إلا بالمشاركة
الإيجابية الفاعلة في تصميم المجتمع الراهن ؛حتى تكون آثار ثقافتنا وبصمات
حضارتنا هي الأخرى شاهدة على هذا الإنجاز في المشهد العالمي رؤية وتصورا ،
ممارسة وعملا, من خلال تجسيد ذلك في عملية الإنتاج كرهان تتسابق عليه
الدول،إذ أن التفوق فيه يتيح احتلال موقع على منصة التعاون والتميز
والخصوصية بما يحافظ على الهوية العربية الإسلامية،ويُعزز انتماءنا
لتراثنا العربي الإسلامي.
إن
التوجه صوب إثبات التميز في الحقل السمعي - البصري سوف يُجنب الثقافة
العربية- الإسلامية محاذير الإتباع والانصياع والذوبان، ويقيها مغبة
التمركز الثقافي الأحادي لمفهوم-"الأمركة"، أو"الغربنة" لأن ذلك من شأنه
أن يجعل من بقية الثقافات مجرد كيانات فلكلورية هامشية،ويعرضها بالتالي
لمخاطر شتى كفقدان التوازن الذاتي،وتعطيل السيرورة الحضارية للمجتمعات عن
الاستمرارية وضعف التواصل بين الأجيال عبر الزمن.ذلك أن الإعلام العربي
يبدو في أغلب ممارساته وكأنه صيد سهل المنال لأحبولة الاختراق الثقافي
الأجنبي الذي يستغل كثرة القنوات وقلة المحتويات لتمرير رسالته للجمهور
العربي،وتشويش آلية الإدراك والتصور والسلوك الاجتماعي…والتشويش على نظام
القيم،وتوجيه الخيال،وتنميط الذوق،وقولبة السلوك،والهدف تكريس نوع معين من
الاستهلاك لنوع مُعين من المعارف والسلع والبضائع تشكل في مجموعها ما
يُمكن أن نطلق عليه ثقافة الاختراق.
*منقول عن *
الجابري محمد عابد ،العولمة والهوية الثقافية
المستقبل العربي