بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التصور الحقيقي للوطن من خلال الهجرة النبوية
لقد فطر الله - عزَّ وجلَّ - الناسَ على حُبِّ أوطانِهم وديارهم، والميل إليها حتَّى غدا هذا الْحُبُّ نديمَ الشُّعراء والأدباء، فساروا به يُنْشِدون ولَعَهم بأوطانِهم وديارهم، يقول عنترة:
ويقول الآخَر
ومهما كان هذا الوطن صغيرًا أو كبيرًا تَبْقى مكانته ومَنْزلتُه في نفوس أبنائه كبيرةً وغالية، وعندما جاء الإسلامُ أكَّد على ضرورةِ هذا الحُبِّ، وجعل حفظ الوطن والأرض من أساسيَّات هذا الدِّين، وعدَّ
كلَّ مَن كاد لوطنه ومارس أفعالاً تُعِين أعداء الوطن على التمكُّن منه
وبَسْط النُّفوذ عليه، عدَّ ذلك خيانة عُظْمى وجريمة كبرى كما هي الْحال
مع أصحاب مسجد الضِّرار الَّذي كان الهدف الأساسي منه مضارَّة المسلمين
والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فهو بمثابة حَلْقة من حلقات
التَّآمُر والعدوان، وضرب المُجتمَع من داخله، وزَعْزَعة وَحْدتِه، أمر النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِهَدْمه وإحراقه.
وشرَعَ الإسلامُ الجهادَ بالسَّيف؛
لِرَدِّ العُدوان عنه، ورتَّب على ذلك أعظم الأجْر الأُخْروي لِمَن قُتِل
مُدافعًا عنه؛ لِتَبقَى كلمة الله هي العليا فيه، وليس المنطلق الشرعيُّ
لِحُبِّ الوطن منتَجًا عن جغرافيَّته وتضاريسه بقدْر ما يَسُود هذا الوطنَ
من عقيدة صحيحة، وتوجُّهٍ لله تعالى واستسلامٍ له، ومن هنا نَفْهم المقولة
الشائعة: "حُبُّ الوطن من الإيمان".
ومن خلال هِجْرة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة نأخذ المفهوم الحقيقيَّ لهذا الحُبِّ العارم تُجاه الوطن، وما مدى رسوخه فكريًّا وعقَدِيًّا؟ وما هي أولويَّات هذا الحُبِّ؟ وما هي الحدود التعريفيَّة له؟
عندما
أمر النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه بالْهِجرة الأولى إلى
الحبشة، والثانية إلى المدينة، كان يَعْلم ماذا تَعْني لَهم مكَّة، وماذا يعني الخروجُ منها، مع احتمالية عدم الرجوع إليها، وهذا ما ظهر واضِحًا عليهم في المدينة عندما أصابَتْهم حُمَّى المدينة، ففي "الصَّحيحَيْن"
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قَدِمْنا المدينة وهي أوبأ أرض الله،
فوعك أبو بكر، ووعك بلال، فكان أبو بكر إذا أخذَتْه الحُمَّى يقول:
وكان بلالٌ إذا أُقْلِع عنه الْحُمَّى يرفع عقيرته - صوته - يقول:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
|
وهُما جبَلان بـ(مكَّة)؛
أيْ: شامة وطفيل، قالت: فأخبَرْتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال:
((اللَّهم حبِّب إلينا المدينة، كحُبِّنا مكَّة، أو أشدَّ، وصحِّحْها لنا،
وانْقل حِماها، فاجعلها بـ (الجحفة)، وبارك لنا في صاعِنا ومُدِّنا)).
كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعلم هذا جيِّدًا، ولكن لا بدَّ من بناء تصوُّر جديدٍ لِهذا الوطن على أنقاض ذلك التصوُّر الجاهلي، وبالتالي ترسخ في فكر وقلب المسلم حديث العهد؛ أولويَّات هذا الحبِّ الذي نشَؤُوا عليه أعوامًا،
وكانت النتيجة فاقتْ كلَّ التصوُّرات لدى قريش، فكانت هذه الهجرة دلالة
على تصحيح جذريٍّ لِمَفهوم الوطن الذي جاء به الإسلام وأراده من أتْباعه.
ولا تتصوَّر أنَّ هذا التحوُّل التصوُّري الجذري كان في غايةٍ من السُّهولة واليسر، كلاَّ والله، فإنَّ هذا يَحتاج إلى مكابدة وصَبْر على نوازع النَّفْس، والْمَيل الفِطْري للأوطان،
وهذا ما ظهر جليًّا في خِطَاب النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -
لِمَكَّة عندما أُخْرِج منها، قال: ((والله إنَّك لَخيْر أرض الله، وأحبُّ
أرض الله إلى الله، ولولا أنَّ قَوْمي أخْرَجوني منك لَمَا خرجتُ))؛ أخرجه
أصحاب السُّنن، وصحَّحه الترمذي، وهذا فيه إشارة إلى قوَّة هذه النَّوازع الفطريَّة، حتَّى الأنبياء كانتْ تُراوِدُهم تلك النَّوازِع، فما بالُك بِمَن هم دون الأنبياء؟
إنَّ حدث الْهِجرة ليس فيه إعلانُ التَّخلِّي عن الوطن بالكلِّية، وتركه بأيد عابثة تسخِّره لِنَزواتِها وشهواتِها وملذَّاتِها،
ولكنَّه بالمفهوم العصري حدَثٌ تكتيكي للتَّوَجُّه إلى الدَّاخل -
التصوُّر النَّفسي والفكري - أوَّلاً لترتيبه وتهيئته، ولِخَلْق أكبر
قَدْر مُمْكن من الفرص؛ لِيُعاد توجُّه حركة هذا الوطن نَحْو خالقه -
سبحانه وتعالى - وعلى هذا فبناء النَّفْس وترتيبُها وتصفيتُها من
الشَّوائب وأعظمها الشِّرك بالله هو في المقام الأول، وخَلْق الجوِّ الذي يُساعد على تَحْقيق هذا الهدف هو من الأولويات أيضًا ولو كان على حساب الوطن، إذا كان هذا الوطن هو العائق الأكبر أمام تعبيد النَّاس لربِّ العالَمين،
ومِن هنا نفهم خروج النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة إلى
المدينة، مع العلم أن مكَّة أفضل من المدينة، ولكن في تلك اللحظة كان جوُّ
المدينة الدَّعَوي أصْلَحَ وأنسب من جوِّ مكَّة، فكان القرار الْحاسم
بالخروج منها.
قال
ابن تيميَّة وهو يتحدَّث عن مكة عندما كانت دار حرب وكفر، قال: "وكان
مقامه بالمدينة، ومقام مَن معه مِن المؤمنين أفْضلَ من مقامهم بمكَّة؛
لأجْل أنَّها دار هجرتهم"؛ "مَجموع الفتاوى"، (18/282).
ونزل
القرآن معاتِبًا لأولئك الذين آثَروا الْجُلوس في مكَّة، وعرَّضوا أنفسهم
للفتنة واصِفًا حالَهم بِصُورةٍ تُوحي بعظم الذَّنب وفداحته، قال تعالى: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].
ومع تأكيد الإسلام على حُبِّ الوطن، إلاَّ أنَّه لم يَجْعَلْه في المقام الأول إطلاقًا على حساب العقيدة والعناية بها، وإيجاد الجوِّ المناسب لتمدُّدِها وانتشارها داخل حدود هذا الوطن وخارجه، والأرض التي تُظِلُّها شريعةُ الله وعقيدته هي وطن المسلم ودارُه، ويَمتدُّ هذا الوطن بامتداد هذه الشريعة والعقيدة متجاوزًا الحدود الجغرافيَّة،
وإن كان قولُنا هذا لا يستقيم على الطبيعة الجغرافية حاليًّا، ولكنَّ
الحدَّ والبُعْد العقَدِيَّ يتجاوز هذه الحدود المصطنعة، وصدق من قال:
يقول
ابن تيميَّة: "وكونُ الأرض دارَ كفر ودار إيمان، أو دار فاسقين، ليستْ صفة
لازمة لها، بل هي صفة عارضة بحسب سكَّانِها، فكلُّ أرض سُكَّانها المؤمنون
المتَّقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت، وكل أرض سُكَّانها الكفار فهي
دار كفر في ذلك الوقت، وكلُّ أرض سكانها الفُسَّاق فهي دار فسوق في ذلك
الوقت، فإن سكنها غير ما ذكرنا، وتبدَّلَت بغيرهم فهي دارهم"؛ "الفتاوى" (18/282).
ويقول أيضًا:
"ولهذا كان أفضل الأرض في حقِّ كلِّ إنسان أرضٌ يكون فيها أطوعَ لله
ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعيَّن أرضٌ يكون مقام الإنسان
فيها أفضل، وإنَّما يكون الأفضل في حقِّ كُلِّ إنسان بحسب التَّقوى
والطاعة والخشوع والحضور، وقد كتب أبو الدَّرداء إلى سَلْمان: هَلُمَّ إلى
الأرض المقدَّسة! فكتب إليه سلمان: إنَّ الأرض لا تقدِّس أحدًا، إنما
يقدِّس العبْدَ عمَلُه، وكان النبِيُّ
- صلَّى الله عليه وسلَّم - قد آخى بين سَلْمان وأبي الدَّرداء، وكان
سلمان أفْقَه من أبي الدرداء في أشياء من جُمْلتها هذا.
وقد قال الله - تعالى - لموسى - عليه السَّلام -: ﴿ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
﴾ [الأعراف: 145]، وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد
هذا دارَ المؤمنين، وهي الدَّار التي دلَّ عليها القرآنُ مِن الأرض
المقدَّسة، وأرض مِصْر التي أورثَها اللهُ بَنِي إسرائيل، فأحوالُ البلاد
كأحوال العباد، فيكون الرَّجُل تارةً مسلمًا، وتارة كافرًا، وتارة مؤمنًا،
وتارة مُنافقًا، وتارة بَرًّا تقيًّا، وتارة فاسقًا، وتارة فاجرًا شقيًّا.
وهكذا الْمَساكن بحسب سُكَّانِها، فهجرة
الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة؛ كتوبته
وانتقاله مِنَ الكُفْر والمعصية إلى الإيمان والطَّاعة، وهذا أمْرٌ باقٍ
إلى يوم القيامة، والله - تعالى - قال: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 75].
قالتْ طائفةٌ من السَّلَف: هذا يدخل فيه مَن آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة"؛ "الفتاوى" (18/283).
وعلى هذا، فلا تُقَدَّم مصلحة الوطن على مصلحة الدِّين، ولا تَكُون رابطة الوطن أقوى وأعلى من رابطة الدِّين، وإنَّما حُبُّنا لأوطاننا منطلِقٌ أساسًا من حُبِّنا لديننا وعقيدتنا.
﴿ قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 161 - 163].
موقع المسلم.