الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، إمام المرسلين،
المبعوث بالدين المتين، والمنهج المبين، أرسله جلّ وعلا رحمةً للعالمين،
وقدوةً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين.
افترض على العباد طاعته وتعزيره، وأوجب عليهم محبّته وتوقيره، وجعل الذلّ والصغار على من خالف أمره.
أمّا بعد:
فإنّ
المسلمين (المتأخرين)، إذا أهلّ هلال ربيع الأوّل، أجمعوا أمرهم، وأخذوا
أهبتهم، استعدادا لاستقبال يوم عظيم (في زعمهم)، وللاحتفال بموسم كريم (في
نظرهم).
والواجب على كلّ مسلم يريد الله
سبحانه والدار الآخرة أن لا يُقْدِمَ على أيّ عمل، دقّه وجلّه، ظاهره
وخفيّه، حتّى يعرف حكم الله تعالى فيه، وأن يعرضه على ميزان الكتاب
والسنَّة، على فهم سلف الأمة الذين عايشوا التنزيل، وعرفوا التأويل، ليكون
على بيّنة من دينه.
وعليه فاعلم ـ أخا
الإسلام ـ أنّ إقامة الاحتفال بمناسبة المولد النبوي، لا يجوز لأنّه من
البدع التي أُحْدِثَتْ في الدين، والدليل على ذلك الأمور التالية:
أولا: أنّ البدعة هي «طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه».
قال العلامة الشاطبي : في بيان ألفاظ هذا الحدّ:
«وقوله في الحدّ ‹تضاهي الشرعية› يعني أنّها تشبه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة:
منها:
التزام الكيفيات والهيئات المعيّنة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد،
واتخاذ يوم ولاة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، وما أشبه
ذلك»[«الاعتصام»: (1/36، 39)].
ثانيا: النصوص العامة الواردة في ذمّ البدع والحوادث منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض ابن سارية:
«وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا،
فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
المَهْدِيِّينَ، عضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ
وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»[صحيح، أخرجه أصحاب السنَّن إلاّ النسائي].
وقوله
صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: «مَنْ أَحْدَثَ فِي
أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»[متفق عليه]. أي
مَرْدُودٌ على صاحبه.
ثالثا:
أنّ هذا الاحتفال لم يفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ وهو المعنّي
بالأمر ـ، ولا الخلفاء الراشدون الذين أمرنا باتباعهم كما في حديث
العرباض، ولا فعل ذلك أحدٌ من الصحابة، وهم أعلم الأمَّة بالسنَّة،
وأشدّهم حبّا للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيما له، ومتابعة لهديه.
ولا فعله التابعون ومن تَبِعَهم في القرون الثلاثة المفضّلة، ومن الأئمة الكبار الذين يُقتدى بهم في مثل فهذا الأمر العظيم.
وهؤلاء أحرص الناس وأشدّهم سَبقًا إلى الخيرات، وقد شهد لهم بذلك جَلَّ وَعَلاَ حيث قال:
﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّ لهمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾[التوبة: 100].
فلو
كان قربةً تُشْرع، وسنَّةً تُتّبع لسبقونا إليه، فمن أجاز هذا الاحتفال
فَلِسَانُ حَالِهِ ـ وربّ حالٍ أبلغُ منْ مقالٍ ـ يقول: إنّ اللهَ لم يكمل
الدين، أو إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلّغِ الرسالة، أو إنّ
الصحابة ي كَتَمُوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمرهم بتبليغه،
وكلُّ ذلك ضلال في ضلال لأنّ الله تعالى يقول: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّه
لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ وَكَانَ حَقَّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ
أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لهمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا
يَعْلَمُهُ لهمْ»[رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما].
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه وقد قيل له: «قد علّمكم نبيّكم صلى الله عليه وسلم كلّ شيء حتى الخراءة، قال: أجل»[رواه مسلم].
وقال
حذيفة رضي الله عنه: «قام فِينَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقَامًا
أَخْبَرَنَا بما يكونُ فيه إلى قيام الساعة، عَقِلَهُ مَنْ عَقِلَهُ
ونَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ»[رواه الحاكم (4/212)].
وإنّما حدث في
مطلع القرن السابع الهجري على يَدِ الملك المظفر أبي سعيد كوكبري، وقد
صنّف له أبو الخطاب بن دحية (ت 633 هـ) مجلّدًا في ذلك سَنَة أربعة
وستمائة، سمّاه «التنوير في مولد البشير النذير»، قرأه عليه بنفسه وختمه
بقصيدة طويلة، فأجازه بألف دينار. [انظر «البداية والنهاية»: (3/136)،
«ونفح الطيب»: (2/575)].
ومن الغرائب ـ والغرائب جَمَّةٌ ـ أنّ
الحافظ ابنَ كثير : حكى عن بعض منْ حَضَرَ سماط المظفر في بعض الموالد،
كان يمدّ في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف
زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يعمل للصوفية سَمَاعًا من الظهر إلى
الفجر يَرْقُصُ بنفسه معهم.
وهذا مظهر من مظاهر الضعْفِ والانحراف في عصر الانحطاط بعد سقوط الخلافة الراشدة وانقسام الدولة الإسلامية إلى دويلات مُتَنَافِرَة.
وأوّلُ
من أَحْدَثَه بالمغرب بَنُو العزفي، أصحاب سبتة، وفي سنة 691 هـ من شهر
ربيع الأول أمر السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحقّ بعمل المولد النبوي
وتعظيمه والاحتفال له، وصَيَّرَهُ عيدا من الأعياد في جميع بلاده. [انظر
«الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى» (ص: 90) لأبي العباس أحمد بن خالد
الناصري].
وهذا يدلّك على أنّ الملوك الذين لا صِلَتَ لَهُمْ
بالعلمِ الصحيحِ همُ الذينَ سَنُّوا للناس هذه السُّنَّة السيئة،
واتَّبَعهم في ذلك طوائف من العلماء والصوفية. ولله درّ القائل:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّيـنُ إلاَّ الملُـوكُ*** وَأَحْبَــارُ سُــوءٍ وَرُهْـبَـانُهَــا
رابعا: أنّ العلماء اتفقوا على أنّ «العبادات مَبْنَاهَا على التوقيف والإتباع لا على الهوى والابتداع».
فالعبادات
التي أوجبها الله جلّ وعلا أو جعلها وسيلة إليه يرجى عليها الثواب، لا
يثبت الأمر بها إلاّ بالشرع، فلا يشرع منها إلاّ ما شرعه الله في كتابه أو
الرسول صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ، ولهذا قال تعالى: ﴿أَمْ لهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ﴾[الشورى: 21].
فكلّ
من شرع عبادة يتقرّب بها إلى الله تعالى، وندب إليها بقوله أو عقله أو
ذوقه من غير أن يشرعه الله سبحانه، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله،
ومن اتّبعه في ذلك فقد اتّخذه شريكا لله.
ولذا كان الإسلام مبنيا على أصلين عظيمين أن لا نعبد إلاّ الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بعبادة مبتدعة.
وهذان الأصلان هما رأسا الإسلام وجمّاعه، وهما تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا لله وشهادة أنّ محمدا رسول الله.
فالشهادة لله بأنّه لا إله إلاّ هو، تتضمّن إخلاص العبادة له.
والشهادة بأنّ محمدا رسول الله، تتضمّن إخلاص المتابعة له(1).
خامسا:
أنّ العلماء اختلفوا في يوم ولادته صلى الله عليه وسلم على سبعة أقوال
ذكرها الحافظ ابن رجب في «لطائف المعارف» (ص: 103)، وهذا يدلّ على أنّ
سَلَفَ الأمة لم يكونوا يحتفلون بالمولد، وإلاّ لضبطوا لنا يوم ولادته،
كما ضبطوا بعضَ الوقائع العظيمة مع عدم احتفالهم بها.
ومن عجائب
القَدَرِ أنّ اليوم الذي اشْتهر أنّه وُلِدَ فيه وهو الثاني من ربيع
الأوّل، هو بِعَيْنِهِ اليوم الذي اشْتهرَ أنَّه توفي فيه، فليس الفَرَحُ
به بأَوْلَى من الحزْنِ فيه، بل قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أُصِيبَ أَحَدُكُمْ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا أَعْظَمُ المَصَائِبِ»[انظر «الصحيحة»، رقم (1106)].
سادسا: أنّ الأعيادَ شريعةٌ من الشرائع يجب فيها الإتباع لا الابتداع.
فالأعياد
الشرعية والمواسم الدينية هي من العبادات التي يُقصد بها التقرّب إلى الله
تعالى وتعظيمه، وتعظيم دينه ونبيّه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾[الحج: 32]. فلا يشرع منها إلاّ ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم
أنّه كان للناس في الجاهلية أعيادٌ يعظّمونها ويجتمعون فيها، فلمّا بُعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ تلك الأعياد كلّها، فلم يبق منها شيءٌ
كما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينةَ، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟»
قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْم
الأَضْحَى وَيَوْم الفِطْرِ» [صحيح، أخرجه أبو داود والنسائي].
وقد ضبط الإسلامُ أعيادَ المسلمين، وجعلها ثلاثةَ أعياد، ليس في دُنْيَا المسلمين أعياد سواها.
عِيدٌ يَتَكَرَّرُ في الأسبوع، وهو يوم الجمعة، وهو مترتّب على إكمال الصلوات المكتوبات، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام.
وعيدان
في السَّنَةِ، يأتي كلُّ واحد منهما في العام مرةً واحدة، فأحدهما عيد
الفطر، وهو مترتّب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الرابع من أركان
الإسلام، وعيد الأضحى، وهو مترتّب على إكمال الحجّ، وهو الركن الخامس من
أركان الإسلام.
فهذه أعياد المسلمين وهي مترتّبة على إكمال أركان الإسلام، فمن أحدث عيدا فقد أحدث في أعياد المسلمين.
ولا
يخفى على كلّ مسلم أنّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم حوادث ووقائع عظيمة،
وأعزّ الله فيها دينه، ونصر نبيّه، مثل غزوة بدر والخندق وفتح مكة وغيرها،
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه اتَّخَذَ مثل تلك الأيّام
أعيادًا.
سابعا: أنّ الاحتفال بالمولد فيه تَشَبُّهٌ بالنصارى في احتفالهم بعيد ميلاد عيسى عليه السلام.
وقد نهينا عن التشبّه بهم واتباع ملّتهم، قال الله جلّ وعلا: ﴿وَلَنْ
تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ
بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ
وَلاَ نَصِيرٍ﴾[البقرة: 120].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»[رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد صحيح].
هذا
فيما كان مشروعا في دينهم، فما بالك في اتباعهم فيما أحدثوه من العبادات
أو العادات مِمّا لَمْ يكن مشروعًا في دينهم، لا شكّ أنّ هذا أَقْبَحُ
وأَفْضَحُ، فإنَّه لو أحدثه المسلمون لكان منكرا، فكيف لو أحدثه الكافرون؟
هذا، ويضاف إلى ما تقدّم ذِكْرُه، ما يَحْدُثُ في هذه المناسبة من المخالفات والمنكرات الكثيرة، منها:
ـ
ما جرت عليه العادة من صنع الطعام وإيقَادِ الشُّمُوعِ والمصَابِيحِ
وتَفْجِيرِ المفَرْقَعَاتِ وإحداثِ النيرانِ ونحوها مِمَّا فيه إسرافٌ
للأموال وتضييعٌ للأوقات، وتبديدٌ للطاقات، نَاهِيكَ عمّا تُسَبِّبُهُ من
إضرار وأضرار، وإحداث هذه الأمور من التشبّه بالكفار في أعيادهم الدينية
ومواسمهم السنوية.
ـ إقامة الحفلات ـ وسُميت الدينية ظُلما ـ
واستعمال الأغاني ـ وسمّيت النبوية جُرْمًا ـ وآلات الملاهي والطرب
كالشبابات والطبول والمزامير والأوتار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَّ
وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ والمَعَازِفَ»[رواه البخاري تعليقا مجزوما به
داخلا في شرطه].
ـ إِنْشَادُ الأناشيدِ والقصائدِ المولدية، خاصة قصيدة «البُرْدَةِ» للبُوصيري مع ما اشتملت عليه من الضلالات والشركيات كقوله:
يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِـي مَنْ أَلُوذُ بِهِ ***سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ
ففيه استغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة بالمخلوق من أنواع الشرك، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِـمِينَ﴾[يونس: 106].
ونظيره قوله:
مَا سَامَنِي الدَّهْرُ ضَيْمًا واسْتَجَرْتُ بِهِ *** إِلاَّ وَنِلْتُ جِوَارًا مِنْهُ لَمْ يُضَمِ
ففيه
استجارةٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم، واستشفاء به، والله جلّ وعلا يقول:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو﴾[يونس:
107].
وقوله:
فَإِنَّ مِنْ جُـودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَـهـا ***وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْم اللَّوْحِ وَالقَلَمِ
ففيه
غلوٌّ كبير في النبي صلى الله عليه وسلم حيث يدّعي الشاعرُ أنّ النبيّ صلى
الله عليه وسلم يعلم ما في اللوح المحفوظ، ويستلزم من ذلك أنّه يعلم
الغيب، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللهُ﴾[النمل: 65]، ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾[الأعراف:
188]، وغير ذلك من الأبيات، ولهذا اشتدّ نكيرُ العلماء المصلحين
الموحِّدين على هذه القصيدة والتي تُحفَّظ ـ مع الأسف الشديد ـ للأبناء
الصغار بالزوايا، وبَيَّنُوا ضَلاَلَها ومخالفتَها لتوحيد المسلمين في
إفراد الله جلّ وعلا بالتعظيم والإجلال والاستعاذة والاستعانة.
والعجيب
أنّ بعض الناس يعتقدون أنّ قراءة هذه القصيدة «البُرْدَة» يثابُ عليها،
وأنّ هذه القراءة تَصِلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ
الغلو والإطراء في النبيّ صلى الله عليه وسلم: ومن مظاهر ذلك أنّ بعض
الناس يعتقد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس من مثل البشر، بل هو نور
من الله الذاتي، وأنّه يحضر بذاته كلّ مجلس ميلاده، وهو يسمع كلامهم.
ومن
مظاهر ذلك، قراءةُ الأحاديث الموضوعة المخْتَلَقَةُ المصنوعة، مثل: (لولاك
ما خلقت الأفلاك)، وفي لفظ: (لولاك ما خلقت الجنة، ولولاك ما خلقت النار)،
وفي لفظ: (لولاك ما خلقت الدنيا)، و(أنا نور الله وكل شيء من نوري)، و(أنا
عرب بلا عين أي ربّ، وأنا أحمد بلا ميم أي أحد)، وغير ذلك مما لا أصل له،
وإنّما هو من وضع الدَّجَّالِينَ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِينَ»[رواه مسلم عن سمرة رضي الله عنه].
ومن مظاهر ذلك، شَدُّ الرِّحَالِ إلى قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم والتوسّل به والتبرّك بشباك قبره.
وكلّ
هذه المظاهر داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تطْرُونِي كَمَا
أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ،
فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»[رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه].
وقوله
صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا
أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ فِي الدِّينِ»[صحيح، أخرجه أحمد
وغيره].
وهناك بِدَعٌ ومحدثاتٌ أخرى كثيرة، ضربنا عنها صفحا،
خشية الإطالة، وإلاّ فلا يخفى أنّ كلّ قرية أو بلد اختصّ بعادات وتقاليد
هي من قبيل ما أُحْدِثَ في المولد.
فإن قيل: أنتم تُنْكِرُونَ
الاحتفال بالمولد، وأنتم قِلَّةٌ قليلةٌ، وأكثرُ المسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها يحتفلون، ويفرحون ويلعبون، بل فَعَلَه قومٌ من أهل العلم
والفَضْلِ، فعلى آثارهم نحن مقتدون.
فيقال: إنّ الحقّ لا يُعرف
بالكثرةِ ولا بالرجال، بل بالأدلة الشرعية، وقد ذمّ الله جلّ وعلا الكثرة
في مواضعَ كثيرةٍ في القرآن، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [الأنعام:
116]، وفي المقابلِ يَمْدَحُ القِلَّةَ التي على الحقِّ، قال تعالى:
﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ﴾[ص: 24]، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»[رواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه].
والعجيب
أنّ هذه الكثرة، أكثرها لا يعرف من نبيّه إلاّ اسمه أو رَسْمه،
وأَسْوَؤُهُمْ حَظًّا لا يعرفه إلاّ في هذه المناسبة، ناهيك عن إضاعة
الواجبات وانتهاك الحرمات وركوب لُجَجِ المحرّمات.
وأمّا فِعله
من بعض أهل العلم والفضل، فهذا إن كان فَعَلَه مجتهدا ومُتَأَوِّلًا فقد
يؤجر على حُسْنِ قصدِهِ، لكنْ لم نُؤْمر باتّباعه في كَبْوَتِه وتقليده في
هَفْوَتِه، وإنّما أُمرنا بإتباع الحقّ ونَدُورُ معه حيثما دَارَتْ
رِكَابُهُ.
ثمّ لو اتّبعتِ الأمّةُ رُخَصَ العلماء وشذُوذَهم لَضاعَ الدينُ واندرستْ أحكامُه وانتكَسَتْ أعْلامُه.
ثمّ
إنّ بعض هؤلاء، موقفُه من السنّة معلوم مَذْمُومٌ، فمنهم من رَدَّها
بعقله، ومنهم من ردَّها بذَوْقِه، ومنهم من ردّها بسياسته، ومنهم من ردّها
برأيه أو آراء الرجال.
ثمّ يقال: إذا فعله قوم ذَوُو علمٍ
وفضلٍ، فقد تركها أقوامٌ هم أوسع عِلْمًا وأدقّ فَهْمًا وأَبَرُّ قلوبًا
وأقلُّ تكلُّفًا من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين.
فإن
قيل: قد وَرِثْنَاهُ أبًا عن جدٍّ، واتَّبَعَ في ذلك آخرُنا أوّلَنا،
ولاحقُنا سابقَنا، فيقال: هذا هو التقليدُ المذموم الذي ذمّه الله في
كتابه، وهو اتّباع ما كان عليه الآباء والأجداد، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا
قِيلَ لهم تَعَالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإلى الرَّسُولِ قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ
لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾[المائدة: 104].
فإن
قيل: إذًا نعتبرها بدعة حسنة، فيقال: ليس في الدين بدعة حسنة وبدعة قبيحة،
بل إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال القول الفصل ليس بالهزل: «كُلّ
بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»، فهذا نصّ لا يحلّ ردّ دلالته على ذمّ البدع مطلقا،
أو معارضته بعادات أو قول بعض العلماء.
وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كلّ بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة»[رواه اللالكائي في «أصول الاعتقاد»، رقم (126)].
فإن قيل لقد أجلبتم علينا بخيل الأدلة ورَجِلِها على بدعيَّة الاحتفال بالمولد، فكيف نفرح ونحتفل بهذا اليوم.
قلنا: ليس بالنخير والشخير، ولا بالتغبير والتكسير، ولا بالبنادير والمزامير، فإنّ ذلك من الحوادث والمناكير.
وإنّما يحتفل بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، وتوقيره ومحبّته، واتّباع هديه وإحياء سنّته ـ نشرا ونصرا ـ.
يحتفل كما يحتفل هو، فقد سُئل عن صوم يوم الاثنين، قال: «ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ»[رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه].
نحتفل
بالأعياد الشرعية حقّا على ما كان عليه السابقون الأوّلون من الذكر والشكر
والتهليل والتكبير والصدقة في الفطر والذبح في الأضحى، فلا يصلح آخر هذه
الأمّة إلاّ ما أصلح أوّلها، وما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا،
ولله درّ القائل:
وَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ *** وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ
و الله أعلم و صلى الله على نبينا محمد و الحمد لله رب العالمين.
7 ربيع الأول 1432هـ, 12:22 مساء
الشيخ عبد المجيد جمعة
من التصفية والتربية السلفية