الكاتب: الإمام// جلال الدين السيوطي
لترتيب وضع السور في المصحف أسبابًا تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم.
أحدها: بحسب الحروف كما في الحواميم.
الثاني: موافقة أول السورة لآخر ما قبلها كآخر (الْحَمْدُ) في المعنى وأول البقرة.
الثالث: للتوازن في اللفظ كآخر (تَبَّتْ) وأول الإخلاص.
الرابع: مشابهة جملة السورة لجملة الأخرى كالضحى و (أَلَمْ نَشْرَحْ).
قال بعض الأئمة: وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه
في دين الإسلام والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية وسورة البقرة تضمنت
قواعد الدين وآل عمران مكملة لمقصودها.
فالبقرة بمنزلة
إقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ولهذا
ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى وأوجب الحج في آل عمران وأما
في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه.
وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر
لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى
المدينة دعا اليهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان
دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور المكية فيها الدين
الذي اتفق عليه والأنبياء فخوطب به جميع الناس.
والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا بـ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا).
وأما سورة النساء متضمنة أحكام الأسباب التي بين الناس وهي نوعان:
مخلوقة لله ومقدورة لهم كالنسب والصهر ولهذا افتتحت بقوله: (اتَّقُوا َبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)
فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح وبراعة الاستهلال حيث تضمنت الآية
المفتتح بها ما أكثر السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث
المتعلقة بالأرحام فإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم خلق زوجه منه ثم
بث منهما رجالًا كثيرًا ونساء في غاية الكثرة.
وأما
المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء
بعهود الرسل وما أخذ على الأمة وبها تم الدين فهي سورة التكميل لأن فيها
تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام وتحريم الخمر الذي هو من
تمام حفظ العقل والدين وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من
تمام حفظ الدماء والأموال وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله
تعالى ولهذا ذكر فيها ما يختص شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كالضوء
والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين ولهذا أكثر فيها من لفظ الإكمال
والإتمام وذكر فيها أن من ارتد عوض الله بخير منه ولا يزال هذا الدين
كاملًا ولها أورد أنها آخر ما نزل فيها من إشارات الختم والتمام وهذا
الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب.
وقال أبو جعفر بن الزبير: حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على
القرآن وضعوا سورة القدر عقب العلق استدلوا بذلك على أن المراد بها
الكناية في قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الإشارة إلى قوله: (اقْرَأْ) قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جدًا.
ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كل واحدة بما بدئت به حتى لم يكن لترد (الم) في موضع (الر) ولا (حم) في وضع (طس) وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الواردة فيها فلو وضع (ق) موضع (ن)
لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله وسورة ق بدئت به لما تكرر فيها
من الكلمات بلفظ القاف من ذكر القرآن والخلق وتكرير القول ومراجعته مرارًا
والقرب من ابن آدم وتلقى المكيين وقول العتيد والرقيب والسائق والإلقاء في
جهنم والتقدم بالوعد وذكر المتقين والقلب والقرون والتنقيب في البلاد
وتشقق الأرض وحقوق الوعيد وغير ذلك.
وقد تكرر في سورة يونس من الكلم الواقع فيها (الر) مائتا كلمة أو أكثر فلهذا افتتحت بـ: (الر) واشتملت سورة ص على خصومات متعددة فأولها خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار وقولهم: (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) ثم اختصام الخصمين عند داود ثم تخاصم أهل النار ثم اختصام الملأ الأعلى ثم تخاصم إبليس في شأن آدم ثم في شأن بنيه وإغوائهم.
و(الم)
جمعت المخارج الثلاثة: الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها وذلك إشارة
إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي بدء الميعاد والوسط الذي
هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة
على الأمور الثلاثة.
وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على الم لما فيها من شرح القصص قصة آدم فمن بعده من الأنبياء ولما فيها من ذكر: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ...) ولهذا قال بعضهم: معنى (المص) (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وزيد في الرعد راء لأجل قوله (رفع السموات) ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما.
واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)، (الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ...) (الر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...) (طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى...) (طسم، تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (يس وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ) (ص، وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ) (حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) (ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ) إلا ثلاث سور: العنكبوت والروم و(ن) ليس فيها ما يتعلق به وقد ذكرت حكمة ذلك في أسرار التنزيل.
وقال الحراني في معنى حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال.
واعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق وكمال كل الأمر بدا فكان المتحلي
به جامعًا لانتهاء كل خلق وكمال كل أمر فلذلك هو صلى الله عليه وسلم قسيم
الكون وهو الجامع الكامل ولذلك كان خاتمًا وكتابه كذلك.
==============
الإتقان في علوم القرآن
==============
موقع هدي الإسلام