الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واعترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ــــ
هل يكون المنتحر بطلا؟
الشيخ عمر الحاج مسعود
نَّنا في زمَن انقلبت فيه الموازين وانعكست فيه الحقائق، فوقع ما
أخبر به رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصَّادقُ المصدوقُ في
قوله: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ؛ يُصَدَّقُ
فِيهَا الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا
الخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ»[1]، وغيِّرت أسماء الأشياء
تمويهًا وتلبيسًا، فأصبح المعروف منكرًا, والمنكر معروفًا، إلى درجة أنَّ
المنتحِر تخلُّصًا من همِّه وظَلَف عيشه وشدَّة مؤنته، وانتقامًا من
استبداد مسؤوليه وظلم حُكَّامه، صار بطلا مِغْوارا، بل شهيدًا عظيمًا.
فالرَّجل البطل في هذا الزَّمَن من يَشْهَر السِّلاح، ويخرج على
الحاكم، ويحرِّض الرَّعاع الهَمَج، ويُقحِمُهم في الفتنة والهرْج، ويزُجُّ
بهم إلى الهلاك والموت، والرَّجل الزَّعيم هو الَّذي ينتحر ويضحِّي بنفسه
تعبيرًا عن رفضه للظُّلم وفساد الأنظمة، وتوبيخًا للظَّالمين
والانتهازيِّين، كما حدث في تونس هذه الأيَّام، ثمَّ في بلدان أخرى،
يقلِّد بعضُهم بعضًا، وهذه سنَّة سيِّئة ومسلك رديٌّ.
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ
بِشَيْءٍ في الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»[2]، وقَال:
«مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فهو فِي نَارِ جَهَنَّمَ
يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى
سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ
بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»[3]، وقال: «كَانَ
بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ الله: بَدَرَنِي عَبْدِي
بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْه الجَنَّةَ»[4].
هذا جزاء المنتحر الظَّالم نفسَه، الَّذي يظنُّ أنَّه قد وضع حدًّا
للهمِّ والمعاناة، لكن الحقيقةُ الَّتي لا مِريةَ فيها أنَّه انتقل إلى
همٍّ أفظعَ ومعاناة أشنعَ، وكما حَرَم نفسَه في هذه الدُّنيا من العبادة
والحياة والحرِّيَّة، يُحْرَم يوم القيامة من الجنَّة ويُدْخَل النَّار،
وبئس القرار.
إنَّ الانتحار - مهما كانت أسبابُه وتعدَّدت دوافعُه - كبيرةٌ نَكْراء
وجريمةٌ شَنْعاء، لا تحقِّق النَّصرَ والسَّراء، بل تسبِّب الهزيمةَ
والبلاء؛ لأنَّه قتل للنَّفس بغير حقٍّ، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151].
وهو دليلٌ على فساد التَّديُّن والبعد عن عقيدة التَّوحيد والاعتراض
على قدَر الله وحُكمه، وآيةٌ على اليأس والقُنوط والجُبن وفَقْدِ الصَّبر
وصِغَر النَّفس وضَعف العزيمة، وعلامةٌ على الخيبة والانهزام والإخفاق،
ولهذا يفشو ويتزايد في البلدان الكافرة[5]، قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ
يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]،
وقال: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾
[الحجر: 56].
وهو برهانٌ على خَبْل العقل وفساد التَّفكير، ولا يصدر إلاَّ من
الهَباء الَّذين لا عقل لهم، والنَّاس إذا طاشت عقولُهم وقعوا في القتل
والفوضى والاضطراب، قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: حدَّثنا رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ
لَهَرْجًا»؛ قال: قلت: يا رسولَ الله! ما الهَرْجُ؟ قال: «القَتْلُ...
يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ وابنَ
عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ»؛ فقال بعض القوم: يا رسولَ اللهِ! ومعنا
عقولنا ذلك اليوم؟ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لاَ،
تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ
مِنَ النَّاسِ لاَ عُقُولَ لَهُمْ»[6].
إنَّ هذا الفعل المشين لا يليق بالعقلاء الرِّجال والشُّجعان الأبطال
من أهل الإيمان، فهم يُوَطِّنون أنفسهم على تحمُّل المشاقِّ في سبيل الله
تعالى، ويصبرون ويحتسبون الأجر على ربِّهم، ولا يحمِلُهم ظلمُ الحكَّام
وفسادُ الأمراء على الخروج عليهم ومخالفة شرع الله وتعدِّي حدوده، وإنَّما
يلومون أنفسهم ويتوبون من ذنوبهم لاعتقادهم أنَّهم كما يكونوا يولَّى
عليهم، و«الله تعالى ما سلَّطهم علينا إلاَّ لفساد أعمالنا، والجزاءُ من
جنس العمل، فعلينا الاجتهادُ في الاستغفار والتَّوبة وإصلاح العمل، قال
تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾ [الشورى]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165]... فإذا أراد
الرَّعيَّة أن يتخلَّصوا من ظلم الأمير الظَّالم فليتركوا الظُّلم»[7]،
فينبغي الحذرُ من الذُّنوب؛ لأنَّها سببُ العقاب والفتنة والهرْج
والسِّنين وشدِّة المؤنة وجَوْر السُّلطان، قال الحسن البصري :: «إنَّ
الحَجَّاج عقوبة من الله - عزَّ وجلَّ -لم تَكُ، فلا تستقبِلوا عقوبةَ
الله بالسَّيف، ولكن استقبلوها بتوبة وتضرُّع واستكانة، وتوبوا
تُكْفوَه»[8].
هذا هو فقه سلفنا الصَّالح في مثل هذه المسائل، ولو علم المنتحر هذا
الأصلَ العظيم وفَقِهَ هذا التَّوجيهَ السَّليم لما أقدم على ذلك الفعلِ
الشَّنيع، ولاتَّبَع سبيلَ أولئك المؤمنين العقلاء، ولله الأمر من قبل ومن
بعد.
إنَّ الرَّجل العاقل البطل في نظر الشَّرع الحنيف ليس هو المتهوِّر
العنيف الَّذي يستشرف للفتنة ويخوض مع الخائضين، وإنَّما هو الَّذي
يوَحِّد ربَّه ويَصْدُقه ويطيعه ويَفي بعهده ويثبُت على دينه، ويجتنب
معصيته ويحذر يوم لقائه، ويقهر نفسه وينتصر على هواه، ويتمسَّك بغَرز
العلماء الرَّبَّانيِّين - وخاصَّة في أيَّام الفتنة - ليدلُّوه على سبيل
النَّجاة وطريق السَّلامة، ولا يتَّبع كلَّ ناعق ولا يميل مع كلِّ ريح،
ويبذُل نفسَه وماله نصرةً لدين الله وإعلاءً لكلمته، ويكون عنده سدادُ
الرَّأي ورَجاحة العقل وحسن الخلق وشرَف النَّفس، وعنايةٌ بمعالي الأمور
وابتعادٌ عن سَفْسَافها، ويكون مفتاحا للخير مغلاقا للشَّرِّ.
قال الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ [الأحزاب]، وقال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ
بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)﴾
[النور]، وقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «وَالمُجَاهِدُ مَنْ
جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ اللهِ»[9]، وقال: «لَيْسَ الشَّدِيدُ
بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ
الغَضَبِ»[10]، فالَّذي يملك نفسه وينتصر عليها في حالة الغضب - فضلاً عن
حالة الرِّضا - أحقُّ بالشِّدَّة والقوَّة وأهلُها.
أنشد بعضهم[11]:
ليس الشُّجاعُ الَّذي يحمي كَتِيبتَه *** يوم النِّزال ونارُ الحرب تشتعلُ
لكن فتًى غضَّ طَرْفًا أو ثنى بصَرا *** عن الحرامِ فذاكَ الفارسُ البطلُ
فما أحوجَ أمَّتنا إلى أمثال هؤلاء الرِّجال العقلاء، الَّذين هم مناط
الإصلاح ومِعْوَل النَّصر، الَّذين يعيدون لها مجدَها المسلوب وعزَّها
المفقود، والله المستعان وعليه التُّكلان.
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا
مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].
وصلِّ اللَّهمَّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمَّد وعلى جميع الآل والأصحاب، وعلى التَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب.
[1] حديث حسن، أخرجه أحمد (7912), وابن ماجه (4036)، انظر: «الصَّحيحة» (1887).
[2] رواه البخاري (6047), ومسلم (110).
[3] رواه البخاري (5778), ومسلم (109).
[4] رواه البخاري (1364), ومسلم (113), واللَّفظ للبخاري.
[5] جاء في جريدة «الشَّرق الأوسط» بتاريخ: 21/10/1419: 12 ألف منتحر سنويًّا في فرنسا.
[6] أخرجه أحمد (19492), وابن ماجه (3959)، واللَّفظ له، وصحَّحه الألباني، انظر: «الصَّحيحة» (1682).
[7] «شرح العقيدة الطَّحاويَّة» لابن أبي العزِّ (2/ 543).
[8] رواه ابن أبي الدُّنيا في «كتاب العقوبات» (52).
[9] حديث صحيح، أخرجه أحمد (23958)، انظر: «الصَّحيحة» للألباني (549).
[10] أخرجه البخاري (6114), ومسلم (2609).
[11] انظر: «كشف المشكل» لابن الجوزي (3/336).