تكنولوجيا الإعلام والاتصال وتعميق التبعية.
من خلال هذا الطرح الموجز لإشكالية تملك (أو بالأحرى عدم تملك) دول العالم الثالث لتكنولوجيا الإعلام والاتصال يتضح مدى عمق الفجوة التي تفصل بين أغنياء الإعلام Inforiches وفقرائه Infopauvres كما أصبحت توصف أطراف العلاقات الدولية المعاصرة زمن العولمة ومجتمع التواصل. وتذكر هذه الحقيقة بالماضي القريب لعلاقات الطرفين حينما كانت القوة والهيمنة والنفوذ مبنية على تعدد أفران المعامل وأبراجها، وعلى الكميات المستهلكة من الصلب أو الفحم أو النحاس…الخ، حينها كان العالم الثالث يسعى لاهثا للحصول على المعامل وعلى المركبات عله يلحق أو يقترب من مكانة وقوة الدول المتقدمة اقتصاديا وصناعيا وعسكريا… وفي سعيه ذاك أهدرت أموال وأزهقت أرواح وشوهت ثقافات ومحيت تقاليد اجتماعية وثقافية..
والسبب هو أن نماذج التنمية المعروضة على هذه الدول، الرأسمالية منها أو الاشتراكية-الأووربية، لم تكن في الحقيقة إلا تكريسا وخدمة لاستمرار تقدم المتقدمين وتأخر المتأخرين. وكان بديهيا أن الغرب لا يمكنه بتاتا نقل أية تكنولوجيا أو أية معرفة إذا كان في ذلك تهديد لسبقه أو مساس بثوابت سيطرته. لذلك كان يسمح بنقل الآلات والمواد والأجهزة.. وكان يسمح بنقل هذه الأخيرة ولكنه كان متمكنا ومهيمنا عبر تكنولوجيا الإعلام والاتصال على ثقافات شعوب العالم الثالث (وإن كان بدرجات متفاوتة)، أي على مصدر الإبداع والخلق والاختراع فيها.
وباختصار كان العالم الثالث في تبعية ليست فقط اقتصادية وصناعية بل أيضا إعلامية وثقافية . وتلك هي أخطر أنواع التبعيات. وإذا كان هو الحال طوال النصف الأخير من القرن العشرين فإن تبعية هذه الدول تجاه الغرب وشركاته وتقنياته زمن العولمة ومجتمع الإعلام أصبحت تقترب من مرحلة الاكتمال. ذلك أنه إذا كانت الدول التابعة في الماضي تستفيد من إمكانية "التراجع الاستراتيجي" والاحتماء وراء الحدود الوطنية والقيام بالتجارب الإنمائية في مأمن نسبيا من التأثيرات الخارجية فإن العولمة ومؤسساتها (شبكات الاتصال ومؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية…الخ) لم تعد تسمح لأية دولة بالخروج عن الخط المرسوم من طرف ذوي القرار في البيت الأبيض أو البنتاغون أو وول ستريت..
وأصبحت بذلك التبعية سياسية واستراتيجية إضافة إلى أبعادها السالفة الذكر.
وأخيرا يمكن أن يضاف إلى هذه وتلك آخر أشكال التبعية: التبعية الأمنية أو الوجودية. فالاستعمال المتزايد لشبكات الاتصال سواء عبر الأقمار الاصطناعية أو عبر الإنترنت أصبح يشكل تهديدا أمنيا لا سابقة له. فكل مستعمل لهذه القنوات سواء كان فردا أو جماعة أو دولة إلا ويجد نفسه تحت رحمة حراس الإمبراطوريات الغربية وخاصة منها الأنجلوسكسونية. فقد ثبت مؤخرا أن هناك مراكز متخصصة في التنصت والتجسس ومراقبة كل المعلومات التي تتنقل عبر شبكات الاتصال المذكورة تعمل على مدار الساعة واليوم والشهر والسنة لالتقاط كل ما يجوب خواطر ومراكز وإدارات ومؤسسات دول العالم… خدمة لمصالح الإمبراطورية المهيمنة، وذلك حتى على حساب حلفائها الغربيين كما أثبت ذلك اكتشاف برنامج التجسس المسمى "Echelon". وآخر هذه البرامج قد بدأ تنفيذه منذ 12 فبراير 2000 والذي عهد إليه بأخذ صور ثلاثية الأبعاد للكرة الأرضية ستسمح للقوات الأمريكية، بعد تحليلها، بالتوفر على صور "حقيقية" لكل تضاريس وجبال ومدن العالم!! أليست هذه قمة التبعية؟
هذه باختصار بعض مظاهر إشكالية تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي تبهر ببريقها الاختصاصي والعادي من أفراد مجتمعات العالم الثالث، ولكن قلة قليلة فقط هي التي تتريث في الحكم على هذه التقنيات. صحيح أن لها مزايا لا تنكر سياسيا واقتصاديا وثقافيا…الخ، لكن القدرة على عزل هذه الإيجابيات عن سلبياتها رهينة بمدى تمكننا تقنيا، وليس فقط استعمالا، من السيطرة عليها وتوجيهها ووضع التنظيمات والقوانين والآليات الكفيلة بجعلها آمنة الاستعمال وتلك طريقة طويلة وصعبة المسالك، لا يكفي لقطعها مجرد خلق صناعات ثانوية كما هو الحال في الهند أو المكسيك بالنسبة لصناعة البرامج Softwares بل تتطلب استغلال التبعية ذاتها لاستدراج الصناعات التجهيزية على النمط التايواني أو الكوري الجنوبي أو غيرهما كأول خطوة… وبلاد كبلادنا التي لم تستطع أن تستفيد من قربها من أوروبا الغربية لاستقطاب أية صناعة إعلامية تذكر (إذا استثنينا بعض الصناعات الإلكترونية الموجهة كليا للتصدير) لا يمكنها كسر الحلقة المفرغة أو دراسة التبعية ما لم تخطط بجدية لخلق صناعة وطنية أو على الأقل محلية يمكن البناء عليها لتحقيق خطوات لاحقة في الاتجاه الصحيح n