ســوره البقـــره
تعريف بالسورة
سورة
البقرة (مدنية) وهي أول ما نزل بالمدينة بعد الهجرة وبقيت تنزل على مدى
المرحلة المدنية كلها تقريباً أي أنّها رافقت تكوين المجتمع الإسلامي
والأمة الإسلامية من بدايتهما.هي أطول سورة في القرآن وعدد آياتها 286.
كيف تخاف وهي معك؟
ورد في فضل سورة البقرة حديثان:
الحديث الأول رواه الإمام مسلم: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما» تأملوا أيها الأحبة كيف أنّ سورتي البقرة وآل عمران تحاجان - أي تدافعان - عن صاحبهما (الذي حفظهما وعمل بهما وكان يقرأهما كثيراً).
وفي رواية «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلّتان»...
إنّ حرَّ يوم القيامة شديد، تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق، فتأتي سورة
البقرة على من حفظها أو عمل بها أو كان كثير القراءة لها لتظلل عليه...
فتأمل قيمة سورة البقرة!..
لحديث الثاني: رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في سورة البقرة يقول «البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان». وفي رواية «..لا يدخله الشيطان ثلاثة أيام». وبالتالي فإنَّ الكثير من الناس يحرصون على قراءة سورة البقرة في البيت لمنع الشيطان من دخوله.
أين أصحاب البقرة؟
وأكثر
من ذلك، فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينادي حين تشتدّ المعركة على
المسلمين ويقول أين أصحاب البقرة؟ وكأنَّ أصحاب البقرة أناس مخصوصون وحين
يسمعون النداء يهبّون مباشرة لتلبية النداء...
ونحن الآن ننادي على الناس ليكونوا من أصحاب البقرة، حتى يكونوا في الدنيا من الصفوة ويوم القيامة من أصحاب الظلّة.
هدف السورة: أنت مسؤول عن الأرض.
الحديث
عن هدف السورة يساعدنا على فهم الآيات بتسلسل واكتشاف الروابط بين
موضوعاتها المختلفة. واللطيف أن بعض العلماء قال بأن تسمية أقسام القرآن
بالسور، لأن كل واحدة منها تشتمل على موضوع واحد، وآيات السورة هي كالسور
أو السياج الذي يحيط بهدف السورة ويدور حوله ويخدمه. إذاً لكل سورة محور
وهدف واحد، فما هو هدف سورة البقرة؟ وما هو المحور الذي يجمع 286 آية على
مدى جزئين ونصف من القرآن؟
إن هدف السورة هو الإستخلاف في
الأرض، وهذا يعني ببساطة «يا مسلمين أنتم مسؤولون عن الأرض». يا من سوف
يقرأ سورة البقرة إعلم أنّك مسؤول عن الأرض وهذا منهجك: سورة البقرة..
وكأنّ
القرآن يخاطبنا قائلاً اعلموا أنّ الأرض هذه ملك لله، والله هو مالك الكون
خلقكم وملَّككم الأرض لكي تُديروها وفقاً لمنهج الله...
السعيد من وعظ بغيره
إنَّ
الله تعالى خلال مسيرة التاريخ قد استخلف أمماً كثيرة على الأرض، فمنهم من
نجح ومنهم من فشل وقد حان الدور في نهاية المطاف على هذه الأمة، والله
تعالى لا يحابي أحد حتى ولو كانت أمة محمَّد صلى الله علي وسلم. فلو فشلت
في المسؤولية فإنّها ستستبدل كما استبدلت أمم من قبلها..
هنا
نفهم لماذا كانت سورة البقرة أوّل سورة في القرآن بعد الفاتحة فهي التي
سترسم معالم المنهج. ولهذا أيضاً نفهم سبب كون هذه السورة أول سورة أنزلت
في المدينة، وظلت تنزل طوال السنين التسعة من المرحلة المدنية، لأنَّ النبي
صلى الله عليه وسلم قد هاجر من مرحلة الإستضعاف في مكة إلى مرحلة بناء
الأمة، فكان من الطبيعي أن تنزل السورة في مرحلة البناء لترشد الأمة كيف
تكون مسؤولة عن الأرض... فينبغي لكل من يقرأ هذه السورة أن يفهم أن كل آية
تطلب منه القيام بالمهمة التي خلق من أجلها: أنت مسؤول عن الأرض لإصلاحها
وتعميرها وهدايتها ولا بد أن يعلم الإنسان أنَّ المسؤولية تحتم عليه أن لا
يكون فاشلاً في حياته فيأخذ بيد الناس، وينجح في حياته وسيظهر ذلك كله خلال
قراءة سورة البقرة.
أقســــام ســـورة البقــــرة
إنَّ سورة البقرة مقسّمة إلى مقدمة ثم قسمين فخاتمة.
القســـم الأول
هو
الجزء الأول من القرآن وهو يعرض نماذج لثلاث مجموعات من الناس قد استخلفهم
الله قبلنا(سيدنا ادم والسيده حواء عليهما السلام ثم بنى اسرائيل ثم سيدنا
ابراهيم عليه افضل الصلاه واتم التسليم ).
والقســم الثــاني
يتكون من الآيات (142-283)، وهو عبارة عن أوامر ونواهي يجب على الأمة وأفرادها أن يتبعوها ليستخلفوا.
الجزء الأول من القرآن
هذا الجزء مكون من ثمانية أرباع:
ربع الحزب الأول : يتكلم عن أصناف الناس وكأننا نستعرض الأصناف الموجودة على هذه الأرض والتي سيكلف أحدها بالإستخلاف.
الربع الثاني: أول تجربة إستخلاف على الأرض: آدم عليه السلام.
الربع الثالث إلى السابع: أمة استخلفها الله على هذه الأرض لمدة طويلة وفشلت في المهمة، بنو إسرائيل.
الربع الثامن والأخير: تجربة سيدنا إبراهيم عليه السلام الناجحة في الإستخلاف.
تجربة
سيدنا آدم تجربة تمهيدية تعليمية، وكانت المواجهة بين إبليس وسيدنا آدم
عليه السلام لإعلان بداية مسؤولية سيدنا آدم وذريته عن الأرض.
ثم
بنو إسرائيل: نموذج فاشل، فهم أناس حملوا المسؤولية وفشلوا، وتستمر السورة
في ذكر أخطائهم لا لشتمهم ولكن ليقال للأمة التي ستستخلف: تنبهي من الوقوع
في الأخطاء التي وقعت فيها الأمة التي قد سبقت في الاستخلاف!
وآخر
ربع يضرب الله به المثل بالتجربة الناجحة لشخص جعله الله خليفة في الأرض
وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام. ويكون الترتيب هذا منطقياً، فبدأَ بآدم
التجربة الأولى وختم بالتجربة الناجحة لرفع المعنويات وبينهم التجربة
الفاشلة، للتعلم من الأخطاء السابقة وأخذ الدروس والعبر.
القســم الأول: نمـــاذج ثـــــلاثة
وأول
خمس آيات من آيات المقدمة عبارة عن صفات المتقين، ثم آيتان تتحدثان عن
صفات الكفار، ثم ثلاث عشرة آية (8-20) عن صفات المنافقين لخطورتهم
وكأنّ
المقدمة تخاطبك قائلة: «هذه أنواع الناس، فحدّد واختر أي الأصناف تريد أن
تكون لأنَّ واحداً فقط من هذه الأصناف سيجعله الله تعالى مسؤولاً عن
الأرض».
ولاحظ أن أول صفة للمتقين هي "الذين يؤمنون بالغيب".
فأهم صفات الأمة المسؤولة عن الأرض هي الإيمان بالغيب وأخطر صفة في الأمة
السابقة هي المادية الشديدة وعدم الإيمان إلاّ بما تراه أعينهم، كما سيتبين
معنا.
أوّل تجربة استخلاف: آدم عليه السلام
وبعد ذلك تبدأ السورة بسرد قصة آدم عليه السلام وتجد أمامك آية محورية في بداية القسم الأول الذي يلي المقدمة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً (30)فأنت
أيها الإنسان مسؤول عن الأرض وقد كان أبوك آدم عليه السلام مسؤولاً عنها
أيضاً فالأرض ليست مسؤولية البعيدين عن الله ولا الناكرين لمنهجه. فالأصل
أنَّ المسؤول عنها كان أبو البشر آدم عليه السلام. ولاحظ أنَّ رد الملائكة
وسؤالهم ليس اعتراضاً على حكم الله (والعياذ بالله) لكنه خوفهم من
الإستبدال وبيانهم أنهم لم يفعلوا ما يغضب الله، فكل أوقاتهم تسبيح وعبادة
لكن الله قال لهم: (إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
علّم الله آدم تكنولوجية الحياة
والآية التالية هي أيضاً آية محورية: (وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلاسْمَاء كُلَّهَا (31).
ومـــــاذا يعنـــــي ذلك!
يعني
أنّه تعالى علَّم آدم تكنولوجية الحياة - إذا جاز التعبير - أي أسماء
المخلوقات ووظائفها من شمس وقمر وبحر وشجر وثمر. وكان في المعنى تحذيراً
للمؤمنين من أن يظنوا بأنهم سيكونون مسؤولين عن الأرض بدون أن يعرفوا طريقة
إدارتها وهنا لفتة لطيفة في الآية 22(ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاء) ففي هذه الآية يبين لنا الله تعالى أدوات الإستخلاف: تسخير الأرض والسماء والزرع...
فهنا
تحذير لعدم فهم الإسلام أنّه صلاة وصيام فقط، دون ان يفهم المؤمنون كيف
يديرون الحياة والأرض، فالله عزّ وجل قد علّم آدم كيف يدير الأرض حتى
يفهمنا أن الأمور لا تدار بالتديّن فقط ولكن بالعلم والتكنولوجيا.
المعصية هي سبب الإستبدال
وتأتي الآية التالية 36 لتبيّن لنا تجربة آدم مع ابليس (فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ (36).وهنا
دلالة أنّ المعصية هي سبب الإستبدال، كأنَّ الآية تخاطبنا في زماننا هذا
لتقول: يا أمة محمد، لقد بقيتم 1300 سنة مسؤولين عن الأرض وما حصل لكم في
المئة سنة الأخيرة هو بسبب معصيتكم كما حصل لأبيكم آدم عليه السلام، (مع بُعْد التشبيه بين زلة آدم عليه السلام نبي الله وبين المعاصي الفادحة التي تقع بها الأمة ليل نهار) فتعلموا من الأخطاء السابقة واجتنبوا المعاصي ليعود الإستخلاف إليكم.
وتمضي الآيات في الحديث عن قصة سيدنا آدم حتى نصل إلى الآية 38 (قُلْنَا
ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن
تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38).وهنا نتذكر أنّ الهدى الذي سيأتي من عند الله تعالى قد ذكر
في أول السورة على أنه القرآن (ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لّلْمُتَّقِينَ)،
ونحن ندعو الله في الفاتحة أن نسير على هذا الهدى (ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ
ٱلْمُسْتَقِيمَ) فهل بدأت أخي المسلم تستشعر معي حلاوة القرآن وترابط
آياته.
تجـــربة بنــي إســـرائيل
تبدأ تجربة بني إسرائيل بالآية 40 من سورة البقرة لتبيان فشلهم في امتحان مسؤوليتهم عن الأرض.
بـــاب المـــهمة: تـــذكر النعـــم.
وأول آية في هذا السياق تقول: (يَـٰبَنِى
إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ).فأول
آية يخاطب الله بها بني إسرائيل (ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ) وأول كلمة خاطبنا
الله إياها في منهجنا (ٱلْحَمْدُ لله رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ). وكأنَّ بداية
مسؤولية واستخلاف كل أمة تكون بتذكّر نعم الله تعالى.
نماذج نعم الله تعالى على بني إسرائيل
وبعد هذه الآية يبدأ الله تبارك وتعالى بتعداد نماذج من هذه النعم فيقول لهم في الآية 50: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَـٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) ويقول لهم في الآية 52 (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ويقول أيضاً في الآية 57 (وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ
كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن
كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
آيات متتالية تتحدث عن النعم ثم تنتقل للحديث عن أخطاء الأمة السابقة، وكل هذا الكلام لكي ننتبه ونتجنب الوقوع في أخطائهم.
أخطاء الأمة السابقة
وتبدأ الآيات التي تصف أخطاء بني إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱلله جَهْرَةً (55)لأنهم
أمة مادية للغاية وكأنَّ الخطأ الجسيم الذي قد تقع به أي أمة ويكون سبباً
في استبدالها هو طغيان المادية فيهاً، ومعنى المادية أنهم لا يؤمنون إلا
إذا رأوا أمراً ملموساً. وهنا نتذكر أول صفة للمتقين في بداية السورة (ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ (2).
وتمضي
الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل والموبقات التي ارتكبوها كقتل
الأنبياء بغير الحق، وعصيانهم وكفرهم بآيات الله، واعتداء أصحاب السبت
وتحايلهم على آيات الله، إلى أن تصل بنا الآيات إلى القصة المحورية: قصة
البقرة.
لمــاذا سميت الســورة بالبقــرة؟
قد يتساءل البعض لماذا سميت هذه السورة بسورة البقرة؟
قد
يجيب البعض بأنها سميت كذلك لأنّ قصة البقرة جاءت في هذه السورة، مع العلم
بأنَّ هذه السورة قد جاء بها قصص كثيرة فلماذا سميت السورة باسم هذه القصة
دون غيرها؟
إنّ قصة البقرة قد جسّدت الأخطاء الأساسية الكبرى
لبني إسرائيل، فسميت السورة باسمها لكي يتذكر المسلم المسؤول عن الأرض هذه
الأخطاء ويتجنبهافتجد فى القصه ما يلى .....
الجدل مفتاح الشرور
وهذه الأخطاء التي ارتكبها بنو إسرائيل تظهر من أول الآية السابعة والستين (وَإِذْ
قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱلله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ
بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱلله أَنْ
أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ
لَّنَا مَا هِىَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ
وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ
ٱلنَّـٰظِرِينَ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِىَ
إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَـٰبَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء ٱلله لَمُهْتَدُونَ
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلاْرْضَ
وَلاَ تَسْقِى ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ
ٱلئَـٰنَ جِئْتَ بِٱلْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
(67-71)..
إخيتــارها لحكــمة
في
الختام تأتي آية رائعة بتلخيصها حياة سيدنا يعقوب (وإسرائيل) في أسطر
(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ
وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِلَـٰهًا
وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133).فهنا حرص سيدنا يعقوب على نقل
أمانة الاستخلاف من آبائه إبراهيم واسحق إلى ابنائه وذريته بني إسرائيل.
وقصة
البقرة أنّ رجلاً من بني اسرائيل قتل ولم يعرف من قتله، فاختلف فيه فأوحى
الله إليهم أن اذبحوا بقرة وأن يأخذوا قطعة منها ثم يضربوا بها الميت
فيحييه فيقول من الذي قتله ولقد طلب الله تعالى منهم ذلك لأنهم ماديون
للغاية وليريهم بأنه تعالى قادر على كل شيء وأن الأمور ليست كما تعوّدوا
عليه دائماً فيحيي الميت بالميت فينطق.
وبما أنهم لم يفهموا الحكمة وبما
أنهم ماديون جداً فقد رفضوا تطبيق الأمر، وقصة البقرة تجسّد أخطاء بني
إسرائيل، من المادية إلى الجدل وعدم طاعة أنبيائهم إلى عدم طاعة الله تعالى
والإلتواء على منهجه وحتى حين نفّذوا ما أمرهم الله به نفّذوا ذلك مكرهين
مجبرين (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ).
وكأنّ قصة
البقرة تنبّه من المادية الشديدة وكأنها تنبّه من الجدل في دين الله تعالى،
تنبّه من المراوغة والتحايل على شرع الله تعالى، أو أن تنفّذ شرع الله
تعالى وأنت كاره لذلك فسمّيت سورة البقرة لخطورة هذه الأفعال.
تميّزوا حتى في مصطلحاتكم
وتمضي الآيات إلى أن نصل إلى الآية التي يذكر فيها لأول مرة (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ). وهذا يتجلى في قوله تعالى (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ (104).
لقد
كان اليهود يخاطبون النبي صلى اله عليه وسلم بقولهم (راعنا) ومعنى راعنا
أي راعي أمورنا ولكنهم كانوا يقصدون بها معنىً سيئاً بلغتهم (إسمع لا سمعت)
أو تعني شيئاً من الرعونة. ومن لا يفهم لغتهم ولا يعرف ما يقصدون يظن
بأنهم يقولون للنبي راعي أمورنا. فالله جل وعلا يقول للصحابة لا تقولوا
راعنا ولكن قولوا انظرنا والكلمتان تحملان المعنى نفسه ولكن ذلك تغيير في
المصطلح..
وكأن المعنى: ......تميّيزوا حتى في مصطلحاتكم. فالله تعالى
يريد أن يفهمنا بأن الأمة السابقة قد وقعت بأخطاء شديدة فلا تتّبعوها أو
تقلّدوها، وتميّزوا عنها حتى في مصطلحاتكم وهنا علاقة مع سورة الفاتحة حين
يطلب المؤمن أن لا يكون مثل بني إسرائيل (غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ)
وتأملوا شباب اليوم كيف تقلّد الأمم الأخرى وكيف تقلّد الغرب في أتفه
الأشياء بينما الله تعالى يعلّمنا أن نتميّز حتى في مصطلحاتنا.
وبعد ذلك تعددت الايات التي تحذّر من التبعية، لأنها تبدأ بالأشياء الثانوية ولن تنتهي الا بالكفر والعياذ بالله: (وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا(109)
التجربة الناجحة: إبراهيم عليه السلام
ونصل إلى الربع الأخير من الجزء الأول والذي يتحدث عن تجربة
إبراهيم وهي تجربة ناجحة جاءت في نهاية الجزء للتحفيز على النجاح
في امتحان الاستخلاف: (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ
إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (124). ولاحظ أن سيدنا إبراهيم
لم
ينجح في الامتحان نجاحا عاديا بل (أَتَمَّهُنَّ) أي قام بهنّ خير قيام
فلما أتمّ هذه الابتلاءات (الرمي في النار، الهجرات وترك الولد في الصحراء،
ذبح الولد..). أخبره الله انه سيجعله للناس إماماً (الاستخلاف) لأنه قد
اطاع الله تعالى فقال إبراهيم عليه السلام (قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ
لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ (124)
فقوله لا ينال عهدي الظالمين
درس هام لنا بأن الله تعالى لا يحابي أحداً حتى أمة محمد والاستخلاف مقرون
بالطاعة لا بالنسب وبهذا المعنى يدعو سيدنا إبراهيم أن يستخلف واحداً من
ذريته (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً(129).
ومن المفيد هنا ملاحظة بدايات القصص الثلاث: فكلها بدأت بآيات تبيّن مجال الاستخلاف وكلها اشتملت على اختبارات في طاعة الله تعالى:
قصة آدم:
أول آية في القصة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ
فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً (30) (اختبار آدم في مسألة عدم الأكل من الشجرة).
قصة بني اسرائيل
: أول آية في القصة: (يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِى ٱلَّتِى
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ (47)
(الاختبار في تنفيذ أوامر الله المختلفة وشكر النعم).
قصة إبراهيم: أول
آية في القصة وهي الآية 124: (إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
)(وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)
تحدي الاب - تحدي القوم - الرمي في النار – الهجرة - ترك الولد والزوجة في الصحراء - الذبح).
وقفــات ولطــائف
ونلاحظ
أيضاً في ختام الجزء الأول وبعد أن قصّ علينا القصص الثلاث تأتي الآية
(قُولُواْ ءامَنَّا بِٱلله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلاسْبَاطِ وَمَا
أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ
نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).
فهذه
الآية تفصيل للذين أنعم الله عليهم المذكورين في سورة الفاتحة (ٱهْدِنَا
ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).
من
فضلك اقرأ هذا الجزء بنفسية من يريد أن يكون مسؤولاً عن الأرض ليستخلفه
الله، وأن يستفيد من أخطاء غيره، وأن يحذر المادية والجدل والتحايل على شرع
الله ويتحرى طاعته.
يحدد الجزء الثاني من سورة البقرة الأوامر والنواهي
التي لا بد للأمة من الأخذ بها حتى تستخلف. وكل هذه الأوامر والنواهي -
كما سيتبين معنا - متعلقة بثلاثة أمور:
1.طاعة الله
2.تميّز الأمة
3.تقوى الله
إن من سيستخلف على الأرض لا بد له من منهج ليسير عليه، هذا المنهج هو الجزء الثاني من سورة البقرة
تغيّر القبلة: إختيار للطاعة وأمر بالتميّز
يبدأ الجزء الثاني بالتعقيب على الحادثة التي أمر الله بها المسلمين بتغيير
القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرّفة، وتشكيك اليهود في المدينة بهذا الأمر: (سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاء مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّـٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا... (142).
وهنا
سؤال يطرح: ما علاقة هذا الربع بما قبله؟ لقد تناول الجزء الأول ثلاث قصص
لآدم عليه السلام، وبني إسرائيل، وإبراهيم عليه السلام. إن العامل المشترك
هو أن كل هذه القصص إختبار للطاعة... فجرى إختبار آدم عليه السلام بالأكل
من الشجرة، وبني إسرائيل في ذبح البقرة وخضع إبراهيم عليه السلام لاختبارات
كثيرة في طاعة الله عز وجل فأتمها (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (124).
فبعد
أن أخبرنا عن أحوال الأمم السابقة وأراد رسم المنهج لهذه الأمة، كانت أول
مقومات المنهج هي الأمر بالطاعة. فالله تعالى لم يقصّ علينا القصص إلا
لحكمة، وهي ترسيخ مفهوم الطاعة عند الأمة المسؤولة عن الأرض، فجاءت حادثة
تغيير القبلة كإمتحان عملي.
ولذلك كانت الآية 143 واضحة جداً في بيان هذا المعنى (وَمَا
جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن
يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ (143).
وقد
يظن البعض أن المسألة كانت سهلة لكن الواقع غير ذلك، فالعرب كانت تقدّس
الكعبة من عهد سيدنا إبراهيم، فجعل الله قبلة المسلمين لبيت المقدس، ثم جاء
الأمر بالإتجاه للكعبة مرة ثانية، طاعة لله.
لاحظ معي علاقة الأرباع السابقة من الجزء الأول بهذا الربع:
-الربع السابع مهّد لفكرة النسخ (وهو تغيير الأحكام) في بدايته (مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (106).ثم يأتي الربع الثامن ليتحدث عن بناء الكعبة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ (127).
وكانت آخر حلقات السلسلة بيان أن نسخ الحكم سيكون بتغيير إتجاه القبلة، فانظر إلى جمال ترابط الآيات ببعضها!
تمييز الأمة حتى في مصطلحاتها
ولكن
الربع هذا ينبّه إلى هدف آخر غير إختبار الطاعة. فكما سبق في الجزء الأول
التنبيه إلى أهمية التميز عن الأمم الأخرى في المصطلحات: (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرْنَا (104) ففي هذه الآية أيضاً أمر بالتميز عن الآخرين في إتجاه القبلة..
فاليهود كانوا يصلّون باتجاه بيت المقدس، فأمر المسلمون
بمخالفتهم
والتوجّه للكعبة. وكأن الرسالة هنا: كيف تستخلف أمة على هذه الأرض وهي
ليست متميّزة عن غيرها؟ كيف يكون التابع والمقلّد مسؤولاً عن الأرض؟...
فكان لا بد قبل الاتيان بأي أمر أو نهي في المنهج أن يأتي الأمر بالتميز عن
طريق تغيير اتجاه القبلة! ليتميّز المسلمون فلا يشعروا بالتقليد والتبعية
للأمم الأخرى.
وسطيــة التميــــز
أما الربع الثاني من هذا الجزء فيبدأ بالآية 128 والتي يقول الله تعالى فيها (إِنَّ
ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱلله فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ
ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا (158) بعض
الناس يفهم هذه الآية أن لابأس بالطواف وأن الطواف إختياري. لكن لكي نفهم
معنى الآية لا بد من معرفة سبب نزولها، فالواقع أن الصحابة عندما سمعوا
خطاب القرآن يأمرهم بالتمييز (سواء بتغيير المصطلحات أو بتغيير إتجاه
القبلة)، ووجدوا أن المشركين يطوفون بين الصفا والمروة (ويضعون صنمين على
جبلي الصفا والمروة (آساف ونائلة) وكانوا يسعون بينهما)،
عندها
شعر الصحابة بحرج من السعي بين الصفا والمروة وأنه ينافي التميز الذي
أمروا به، فجاءت الآية لتخبرهم أن ليس كل ما يفعله الكفار خطأ، فإن أصل
السعي بين الصفا والمروة أمر رباني واتباع لسيدنا إبراهيم. وبهذا تتضح
الرسالة: لا بد من التوازن في التميز لأن هذه الأمة أمة وسط فليس كل ما
يفعله الكفار مرفوض...ولذلك تأتي في هذا الربع آية هامة في رسم المنهج: (وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ (143).
أنت منتمي إلى أمة متميزة:
تخيل
أنك أنت ستشهد على البشرية التي تعاصرها، وأنت ستقول يوم القيامة أين الحق
وأين الضلال، فتأمل حجم المسؤولية الملقاة على عاتقك يوم القيامة، وتابع
معي قراءة سورة البقرة حتى تتبيّن معالم مسؤوليتك وشهادتك على الأمم.
الإسلام والإصلاح الشامل
في الربع الثالث تبدأ سلسلة من الأوامر الشاملة لكل نواحي الإصلاح في المجتمع.
فيبدأ بقول لله تعالى: (لَّيْسَ
ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ
وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِٱلله وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ
وَٱلْمَلَـئِكَةِ وَٱلْكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِيّينَ وَءاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ
حُبّهِ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ
وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّائِلِينَ وَفِي ٱلرّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَى ٱلزَّكَوٰةَ
وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـٰهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَاء وٱلضَّرَّاء وَحِينَ ٱلْبَأْسِ... (177)
يقول العلماء أن هذه الآية شاملة للإسلام، فقد شملت العقائد (الإيمان بالله والملائكة والكتاب) والعبادات (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) والمعاملات (الوفاء بالعهد) والأخلاق.
لاحظ هنا التدرج الرائع الذي جاءت به هذه السورة:
1.تغيير القبلة (لتحقيق التميز) (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ (144).
2.التوازن في التميز ({إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم}(158).
3.الاتجاه ليس كل شيء: (لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ (177).
فبعد
ان رسخ الله تعالى لدى الصحابة الطاعة والتميز في الربع الأول، بيّن لهم
أن المسألة ليست مسألة إتجاه وإنما هي قضية إصلاح شاملة. فحين جاء الأمر
بالتوجه للكعبة كان ذلك فقط لاختبار الطاعة والتميز، بينما الأصل هو عمل
البر بكل أشكاله التي وردت في الآية 177.
مفردات الإصلاح الشامل
ومن أول الربع الثالث في الجزء الثاني تبدأ الأوامر والنواهي للأمة لترسم شمول المنهج:
تشريع جنائي:
(يـأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى (178).
وبعدها يأتي قوله تعالى(وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي
ٱلالْبَـٰبِ (179).
مواريث:
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلاْقْرَبِينَ (180)
وبعد هذا
تشريع تعبدي:
(يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)..
التقوى مصباح الطريق
والملاحظ أن كل الأحكام الواردة هنا قد ركزت بشكل أساسي على تقوى الله تعالى، قتجد في آية القصاص: (وَلَكُمْ
فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلالْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(179) وفي آيات المواريث (إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوٰلِدَيْنِ
وَٱلاْقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ (180) وفي آيات
الصيام (يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) وفي
ختام عرض الأحكام: (كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱلله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ (187).
فهذا المنهج لا بد له من أناس
طائعين، متميزين عن غيرهم، ومتّقين يريدون إرضاء الله تعالى، فهذه المحاور
الثلاثة هي سياج يحمي المنهج، ذكرت بطريقة مترابطة ومدهشة لا تشبه طريقة
البشر في الشرح والعرض.
وكلما تقدمت أخي المسلم في قراءة السورة تتفتح عيناك على بقية أجزاء المنهج، فتتضح أمامك شموليته.
فالقرآن
بدأ بالتشريع الجنائي ثم التشريع التعبدي. وقد يتساءل البعض عن العلاقة
بينها. وهنا ينبغي التنبيه إلى أنك حين تجد موضوعات متتابعة ولكن متفرقة
فهي إشارة إلى أن الدين يشملها كلها. فلم يأت تشريع العبادات منفصلاً عن
غيره من الأحكام للتأكيد على شمول المنهج وتناوله لكل مظاهر الحياة.
انتقاء