وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين
الكتاب الكريم : مُلك النّبوّة[1]
مجمع الحق والخير , ومظهر الجمال والقوّة , القسم الرّابع
الآية السّادسة وهي : 20 من النّمل :
(<< وتفقّد الطّير فقال مالي لا أرى الهُدهد أم كان من الغائبين >>)
الألفاظ والتّراكيب :
تفقد : التّفقد تطلّبك ما فقدته وغاب عنك وتعرّفك أحواله , لا أرى :
لا أبصر , الهُدهُد : هو << تبّيبٌُ >> وهو طائر صغير الجرم
مُنتن الرّيح ليس من كرام الطّير ولا من سباعها , ما لي لا أرى : استفهم
عمّا حصل له فمنعه من الرّؤية حيث ظنّ أوّلا أنّ الهُدهُد كان حاضرا وإنّما
هو لم يره , أم كان من الغائبين , استفهم عن غيبته حيث ظنّ ثانيّا أنّه
غاب فاستفهم عن صحّة ما ظنّ , فكلمة أم فيها إضراب وفيها استفهام فأضرب
إضراب انتقال من ظنّ إلى ظنّ , كان من الغائبين : تعريض بقبح فعله لمّا
انحطّ عن شرف الحُضور وكان من الغائبين .
المعنى :
تطلّب سُليمان عليه السّلام معرفة ما غاب عنه من أحوال الطّير فلم ير
الهُدهُد وأخذ يتساءل فظنّ أنّ شيئا ستره عنه فلم يره , ولمّا لم يكُن شيء
من ذلك ظنّ أنّه كان غائبا غير حاضر وذلك هو الظّنّ الأخير الذي حصل به
اليقين .
تعليم وقدوة :
من حقّ الرّعيّة على راعيها
أن يتفقدّها ويتعرّف أحوالها إذ هو مسؤول عن الجليل والدّقيق منها يُباشرُ
بنفسه ما استطاع مُباشرته منها ويضعُ الوسائل التّي تُطلعه على ما غاب عليه
منها ويُنيط بأهل الخبرة والمقدرة والأمانة أحوالها حتّى تكون أحوال كلّ
ناحيّة معروفة مُباشرة لمن كلّف بها , فهذا سُليمان على عظمة مُلكه واتّساع
جيشه وكثرة أتباعه قد تولّى التّفقد بنفسه ولم يُهمل أمر الهُدهُد على
صغره وصغر مكانه , وقد كان عُمرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه يقول : لو أنّ
سخلة بشاطئ الفرات يأخُذها الذّئب ليُسأل عنها عُمر , وهذا التفقد
والتّعرّف هو على كلّ راع في الأمم والجماعات والأسر والرّفاق وكلّ من كانت
له رعيّة .
تعليل وتحرير :
تفقد
سُليمان جنس ما معه من الطّير للتّعرّف كما ذكرنا وذكر الطّير لأنّه هو
الذي تعلّقت به القصّة وليس في السّكوت عن غير الطّير ما يدلّ على أنّه لم
يتفقده فالتّفقد لم يكن للهدهد بخُصوصه وإنّما لمّا تفقد جنس الطّير فقده
ولم يجده فقال ما قال , فلا وجه لسُؤال من سأل : كيف تفقد الهُدهُد من بين
سائر الطّير .
تدقيق لُغويّ وعرض علميّ :
سأل
سُليمان عن حال نفسه فقال : ما لي لا أرى الهُدهُد ولم يسأل عن حال
الهُدهُد فيقل ما للهُدهد لا أراه فأنكر حال نفسه قبل أن يُنكر حال غيره ,
فنقل الحافظ الإمام ابن العربي عن الإمام عبد الكريم بنُ هوازن القشيري شيخ
الصّوفيّة في زمانه قال : ( إنّما قال ما لي لا أرى لأنّه اعتبر حال نفسه
ذا علم أنّه أوتي المُلك العظيم وسخّر له الخلق فقد لزمه حقّ الشّكر بإقامة
الطّاعة وإدامة العمل فلمّا فقد نعمة الهُدهُد توقع أن يكون قصّر في حقّ
الشّكر فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسهُ فقال ما لي وكذلك تفعل شُيوخ
الصّوفيّة إذا فقدوا آمالهم , تفقدوا أعمالهم هذا في الآداب فكيف بنا اليوم
ونحنُ نُقصّر في الفرائض ) .
توجيه :
مثل هذه
المعاني الدّقيقة القرآنيّة الجليلة النّفيسة من مثل هذا الإمام الجليل من
أجلّ عُلوم القرآن وذخائره إذ هي معاني صحيحة في نفسها , ومأخُوذة من
التّركيب القرآني أخذا عربيّا صحيحا , ولها ما يشهد لها من أدلّة الشّرع ,
وكلّ ما استجمع هذه الشّروط الثلاثة فهو صحيح مقبول , ومنه فهم عُمر وابن
عبّاس رضي الله عنهما أجَلَ رسُول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سُورة
النّصر , أمّا ما لم تتوفر فيه الشّروط المذكورة وخُصوصا الأوّل والثاني
ــ فهو الذي لا يجُوز في تفسير كلام الله وهو كثير في التّفاسير المنسوبة
لبعض الصّوفيّة , كتفسير ابن عبد الرّحمن السّلّمي من المُتقدّمين
والتّفسير المنسُوب لابن عربي من المُتأخّرين .
الآية السّابعة وهي : 21 من النّمل :
(<< لأعذبنّه عذابا شديدا أو لأذبحنّه أو ليأتينّي بسُلطان مُبين >>)
الألفاظ والتّراكيب :
عذابا شديدا : بنتف ريشه هكذا فسّره ابنُ عبّاس وجماعة من
التّابعين , بسُلطان مُبين : بحُجّة قاطعة تُوضّح عُذره في غيبته , سُمّيت
الحُجّة سُلطانا لما لها من السّلطة على العقل في إخضاعه , أفادت ــ أو ــ
أنّ المحلوف على حُصوله هو أحدُ الثلاثة فإذا حصلت الحُجّة فلا تعذيب ولا
ذبح ولو لم تحصُل لفعل أحدهما , وقدّم التّعذيب لأنّه أشدّ من القتل ,
وحالة الغضب تقتضي تقديم الأشدّ .
المعنى :
يُقسمُ
سُليمان على مُعاقبة الهُدهُد ــ وقد تحقق غيبته ــ بالتّعذيب أو بالذبح
إذا لم يأته بالحُجّة التّي تُبيّن عُذره في تلك الغيبة ولا يستثني للعفو
ولا يجعل سببا لسلامته من العُقوبة إلاّ الحُجّة .
توجيه واستنباط :
ليس في الآية الثانيّة ما يُفهم خُصوص نتف الرّيش من لفظ العذاب
الشّديد وإنّما فهم ابن عبّاس رضي الله عنه وأئمّة من التّابعين ذلك
بالنّظر العقلي والاعتبار فإنّ نتف ريشه يُعطّلُ خاصّية الطّيران فيه
فيتحوّل من حياة الطّير إلى حياة دواب الأرض وذلك نوع من المسخ وقد علم أنّ
المسخ في القرآن أشنع عُقوبة في الدّنيا فلهذا فسّروا العذاب الشّديد بنتف
الرّيش .
والإنسان خاصّيته التّفكير في أفق العلم الواسع
الرّحيب , فمن حرّم إنسانا ــ فردا أو جماعة ــ من العلم فقد حرمه من
خُصوصيّة الإنسانيّة وحوّله إلى عيشة العجماوات وذلك نوعٌُ من المسخ فهو
عذاب شديد وأيّ عذاب شديد ؟
صرامة الجُنديّة :
كان
هذا الهُدهُد من جُنُود سُليمان التّي حشرت له وقد كان في مكانه الذي عُيّن
له وأقيم فيه فلمّا فارق وترك الفرجة في صفة وأوقع الخلل في جنسه استحقّ
العقاب الصّارم الذي لا هوادة فيه , وهذا أصل في صرامة أحكام الجُنديّة
وشدّتها لعظم المسؤوليّة التّي تحملها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها
وعظم الخطر الذي يعمّ الجميع إذا أخلّت بها .
تقدير العُقوبة :
جَرَمُ الهُدهُد صغير وما كلّف إلاّ بما يستطيعُه من الوُقوف في
مكانه والبقاء في مركزه ولكن جرمُه بإخلاله بهذا الواجب كان جرما كبيرا
فإنّ الخلل الصّغير مجلبة للخلل الكبير فقدّرت عقوبته على حسب كبر ذنبه لا
على حسبِ صغر ذاته .
تنبيه وإرشاد :
كلّ واحد في
قومه أو في جماعته هو المسؤول عنهم من ناحيته , ممّا يقوم به من عمل حسب
كفاءته واستطاعته , فعليه أن يحفظ مركزه ولا يدع الخطر يدخُلُ ولا الخلل
يقعُ من جهته , فإنّه إذا قصّر في ذلك وترك مكانه فتح ثغرة الفساد على قومه
وجماعته , وأوجد السّبيل لتسريب الهلاك إليهم , وزوال حجر صغير من السّدّ
المُقام لصدّ السّيل يُفضي إلى خراب السّدّ بتمامه , فإخلال أيّ أحد بمركزه
ولو كان أصغر المراكز مُؤدّ إلى الضّرر العام , وثبات كلّ واحد في مركزه
وقيامه بحراسته هو مظهر النّظام والتّضامن وهُما أساس القوّة .
الحقّ فوق كلّ أحد :
لقد أغضب سُليمان غياب الهُدهُد فلذا توعّده هذا الوعيد وأكّده هذا
التّأكيد ولكن سُلطان سُليمان في قوّته ومُلكه ومكانته يجب أن يخضع
لسُلطان آخر هو أعظمُ من سُلطانه : هو سُلطان الحقّ , والحقّ فوق كلّ أحد ,
ومُلكُ سُليمان مُلك حقّ فلا بُدّ له من الخُضوع لسُلطان الحُجّة ليُقيم
ميزان العدل , والعدل أساس المُلك وسياج العُمران .
مجلّة الشّهاب , الجُزء الخامس من المُجلّد الخامس عشر .[1]
مقالات أخرى