تُعدّ
صياغة وتشكيل الرأي العام في المجتمعات من الأدوار الرئيسة التي تقوم بها
وسائل الإعلام، ويتضاعف ذلك مع التطورات النوعية المتزايدة في مجالات
تقنية الاتصالات، والتي منحت وسائل الإعلام إمكانيات وقدرات هائلة في
التأثير على الآخرين، الأمر الذي جعل من وسائل الإعلام عاملاً رئيساً من
العوامل المؤثرة على الرأي العام؛ إن لم يكن أهم تلك العوامل.
وتتم
عملية التأثير على الرأي العام بخطوات وأساليب متعددة، فوسائل الإعلام
باعتبارها مصدراً مهماً من مصادر المعلومات تقوم بتزويد المتلقي بشكل
مستمر بكمٍ هائل من المعلومات والمعارف المختلفة في شتى القضايا
والموضوعات، وهذه المعلومات قد تكون صحيحة ضمن سياقاتها الطبيعية، وقد
تنزع منها فتتغير دلالاتها، وقد تكون معلومات ناقصة ومشوّهة، بل وقد تكون
مكذوبة، كما أنها قد تكون معلومات محايدة لا يُراد منها خدمة توجّه معين،
وقد تكون معلومات موجهة، وهذه المعلومات والمعارف المتنوعة تُعدّ القاعدة
الرئيسة التي من خلالها تتمكن وسائل الإعلام من إحداث أنواع مختلفة من
التأثير سواء المدى القريب أو البعيد، وبهذا الاعتبار يُعدّ تزويد وسائل
الإعلام للمتلقي بالمعلومات المختلفة آلية أولى في عملية تأثيرها على
الرأي العام.
وتكمن الخطورة في هذه الآلية عندما تقوم وسائل الإعلام في
سبيل تشكيل رأي عام معين بنشر معلومات موجهة من خلال مجموعة من البرامج
الإعلامية المتنوعة والتي تخدم بشكل غير مباشر، ومن حيث لا يشعر المتلقي
ذلك الرأي، ولكن على المدى البعيد، "فحينما تقوم وسائل الإعلام بتقديم
المرأة ضمن إطار معرفي مخالف للتكوين المعرفي الذي لدى الجمهور عن المرأة،
وتلجأ في سبيل ذلك إلى استخدام قوالب جذابة تُعرّى من خلالها المرأة، فهي
ناجحة لأنها متحررة من ضوابط القيم، وهي محط الأنظار؛ لأنها استغلت
النواحي الجمالية في جسدها، وهي مشهورة؛ لأنه عرف عنها مقاومة الأعراف
والتقاليد.. وهكذا، وتتم عملية التغيير المعرفي عبر عملية طويلة تتنوع
فيها جزيئات التكوين المعرفي الجديدة التي يُراد إحلالها محل المعرفة
القديمة، فهذا مسلسل يصور العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال رؤية عصرية،
وهذا مقال يتحدث عن قصة نجاح فتاة تغلبت على ظروفها، فتمرّدت على
التقاليد، وسافرت وحدها إلى أمريكا حيث رجعت بأعلى الشهادات، ثم هناك خبر
عن إنجاز نسائي؛ إذ حصدت النساء الألمانيات الميداليات الذهبية في مسابقات
العدو للمسافات القصيرة والسباحة الحرة، بينما فشل الرجال في تحقيق أي
شيء، وهكذا تتجمع جزيئات المعرفة الجديدة لوضع المرأة بين حياة عصرية
وتمرد على التقاليد وإنجازات تفوّقت فيها على الرجال لتشكل إطاراً جديداً
يحل شيئاً فشيئاً محل القديم "(1).
كما أن من الآليات التي تنتهجها
وسائل الإعلام في التأثير على الرأي العام الانحياز لبعض الآراء و
إبرازها للجمهور، والتركيز عليها بأكثر من طريقة سواء كانت مباشرة أوغير
مباشرة، والاحتفاء بها، والحديث عن إيجابياتها، والتقليل من شأن سلبياتها،
وفي المقابل تقوم بتشويه الآراء الأخرى، وإبراز سلبياتها وتضخيمها،
وافتعال الإشكالات حولها، ويصل الوضع أحياناً لحد تجاهل تلك الآراء وحجبها
عن الجمهور.
وقد وجدت دراسة تحليلية غربية أن وسائل الإعلام تدفع
الجمهور إلى تبني رأي معين من خلال إيهام المتلقي بأن موقفها يمثل الرأي
العام، فتصفه مثلاً بأنه يمثل "الموقف الوطني" أو"الإحساس العام" أو أن
"معظم الناس يؤيدون.."، أو من خلال اللجوء إلى التقاليد الاجتماعية،
والادّعاء بأن الآراء الأخرى تخالف تقاليد المجتمع، وأنها آراء شاذة، أو
عبر تقديم تفسيرات قانونية اجتهادية لتصبح أعمال أصحاب الآراء الأخرى
وأنشطتهم خروجاً عن القانون، وإن كانت هذه التفسيرات غير مسلمة وقابلة
للنقاش(2).
وتبدأ أولى مراحل تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام على
الصعيد المعرفي(3)، إذ تقوم وسائل الإعلام بصياغة تكوين معرفي جديد لدى
الأفراد حول القضية محل التأثير أو على الأقل إحداث خلخلة في التكوين
المعرفي القديم حول تلك القضية، ويتم ذلك من خلال تزويد المتلقي
بالمعلومات المختلفة المباشرة وغير المباشرة، والتي تعمل على اجتثاث
الأصول المعرفية القائمة لقضية أو لمجموعة من القضايا لدى الأفراد، وإحلال
أصول معرفية جديدة بدلاً عنها، وتأثير وسائل الإعلام في طريقة تفكيرنا
وأسلوب تقييمنا للأشياء من خلال ما نتلقاه منها من معلومات يؤدي إلى تحول
في قناعاتنا وفي معتقداتنا؛ لأن العقائد حصيلة المعرفة التي اكتسبناها،
فنحن نعرف على سبيل المثال الحلال والحرام - وهذه عقيدة - من خلال العلم
والمعرفة التي تعلمناها عن ذلك الحلال و الحرام(4).
كما أن لوسائل
الإعلام قدرة على تصوير القضايا والأحداث والأشخاص على خلاف الواقع
الفعلي، وتقديم تلك التصورات للجمهور على أنها تمثل الصورة الحقيقية، وذلك
من خلال توظيف مفهوم الصورة الذهنية، حيث تعرض وسائل الإعلام جزءًا من
الصورة الحقيقية عن قضية ما، وتركز عليه، وتقدمها للجمهور على أنها تمثل
الصورة الحقيقية بكامل أجزائها، ومن خلال تعرض المتلقي المستمر لوسائل
الإعلام تتكون لديه صور ذهنية متعددة عن جملة من القضايا أو الأحداث بناء
على الاتجاهات السياسية والفكرية والثقافية لتلك الوسائل، وعلى سبيل
المثال فالوضع العام للمرأة السعودية في الجملة وضع محافظ، ولكن هناك
نماذج فردية تشذ عن القاعدة العامة، فعندما تقوم الصحافة بإبراز تلك
النماذج الشاذة وإظهارها على أنها تمثل واقع المرأة السعودية، فإن ذلك
يقوم برسم صورة ذهنية معينة تخدم أجندتهم الفكرية تختلف عن الواقع
الحقيقي، وهذا الدور في التأثير يُطلق عليه بـ "صياغة الواقع".
وتغير
التكوين المعرفي والقدرة على صياغة الواقع تحدث على المدى البعيد تغييراً
آخر على مستوى المواقف والآراء؛ إذ إن مواقف الأفراد وآراءهم تُبنى في
العادة على التكوين المعرفي للقضية محل التأثير و صورتها الذهنية، وبمجموع
تلك الآراء يتشكل الرأي العام في المجتمع.