دور المدرسة في التنشئة السياسية
|
|
موضوع التنشئة السياسية كان ومازال مجالاً للدراسات النظرية . ففي
العصر القديم كرس الفلاسفة والمفكرون جزءاً من وقتهم وجهدهم في البحث عن
أنجح الطرق لتنشئة فئات اجتماعية معينة سياسياً. وبينما ركز بعضهم على غرس
قيم الحب والخير والقيم الفاضلة بغية إيجاد المواطن الصالح كما حدث في
الحضارة الصينية ركز البعض على معاني الطاعة والقديس والإخلاص كما حدث في
الحضارة الفرعونية ، وأهتم آخرون بتنشئة فئة الحكام باعتبارها محور الحياة السياسية وغايتها في نفس الوقت كما فعل أفلاطون بالنسبة للحضارة اليونانية.
وفي نفس العصر الوسيط آمن مفكرو المسيحية بأن طبيعة الإنسان ازدواجية من حيث هو جسد وروح ،
ومن هنا كان موطنا للعالم الدنيوي أو "مدينة الإنسان" وللديانة السماوية
أو "مدينة الله" في ذات الوقت وقد عكست الأفكار السياسية المتأثرة
بالمسيحية نقداً حاسماً للعالم الدنيوي ، وتركيزاً واضحاً على الجانب
الروحي من الإنسان الذي هو منبع الفضيلة. وقد
كان لهذه الأفكار أثرها البالغ على التنشئة التي وجهت اهتمامها الأول نحو
الإعداد للحياة الآخرة وتنمية الإرادة التي تعين الفرد على التخلص من
خطيئته الأولى والتسامي بروحه.
وأتخذت التنشئة السياسية بعداً جديداً في الإسلام حيث تربط الدنيا بالآخرة والسياسة بالدين ارتباطاً وثيقاً فكل نشاط مادي أو دنيوي يباشره الإنسان هو في نظر عمل روحي أخروي طالما كان مشروعاً ،
وكذلك فإن الغاية من الدولة الإسلامية هي إقامة الدين وسياسة الدنيا به ،
الولاء فيها لله وحده ، والسيادة لله وحده ، فهي ليست للحاكم أو الشعب. فالعقد
الاجتماعي لا يكون بين الحاكم والمحكوم في الدولة الإسلامية وإنما بين
الحاكم والمحكوم من جهة وطاعتهم لقوانين الله وتطبيقها من جهة أخرى. وقد
وردت في القرآن الكريم الكثير من الآيات الدالة على بناء النظام السياسي
وبناء ذات الفرد وإقامة العدل وتحقيق المساواة واتباع الطاعة والشورى.
قال تعالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ،
ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم
في الأمر) وقال تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى
بينهم) وفي العدل قال تعالى (ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا
هو أقرب للتقوى) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط
شهداء لله ولوعلى أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين ) وفي المساواة قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجلعناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله عليم خبير) وفي تربية الفرد على طاعة أولي الأمر في حدود الشريعة
الإسلامية قال تعالى (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم).
وفي ضوء هذه الآيات يتضح أن القرآن الكريم قد حث المسلمين على إقامة المجتمع السياسي الإسلامي المترابط ،
وعلى إقامة نظام سياسي يطبق شريعة الله في أرضه ، وعلى تنشئة المسلمين على
الأمور ذات الطابع السياسي وفق الأسس التي حددها الإسلام . وقد ظهرت في
فترات مختلفة من تاريخ الدولة الإسلامية كتابات قيمة نتناول تلك الأمور
السياسية التربوية للماوردي ، الفارابي ، والغزالي ، وابن تيمية ، وابن خلدون ، وغيرهم.
وفي العصر الحديث ،
وبعد انهيار المجتمع التقليدي ، انشغل الكثير من مفكري الغرب بقضية الحفاظ
على التماسك الاجتماعي وشرعية الدولة والسلطة في ذات الوقت الذي يشهد فيه
النظام العام صراعات مستمرة بين الأفراد
والجماعات وأسفرت المناقشات عن ظهور اتجاهين أساسيين ، اتجاه يدعوا إلى
دراسة الظروف التي يتحقق في ظلها الاتفاق والإجماع السياسي ، واتجاه آخر
يدعوا إلى دراسة الصراع السياسي بين فئات المجتمع المختلفة ، ومن هذين
المنظورين تمثل دراسة التنشئة السياسية مسألة بالغة الأهمية سواء في تحليل
الإجماع والشرعية أو في تفسير الصراع.
وتكمن
أهمية التنشئة السياسية في كونها أداة هامة لتحقيق الإجماع السياسي من
خلال بث المفاهيم والقيم السياسية العامة إلى قطاع كبير من المواطنين وعلى
نحو يحقق دعماً للنظام السياسي ، ويقلل من
احتمالات الاضطراب السياسي . وتلعب المدرسة دوراً هاماً في ذلك من خلال
السعي نحو إقامة تفاهم بين أبناء الفئات الاجتماعية المختلفة واستقطابهم
جميعاً حول مشاعر الولاء للنظام القائم ، والإحساس بالوطنية والانتماء للمجتمع.
وعلى الرغم من أن لعملية التنشئة السياسية لاسيما على مستوى التعليم الرسمي ، دوراً إيجابياً في دعم التماسك من خلال إكساب الأفراد قيماً ومعايير سياسية مقبولة ومعترفاً
بها اجتماعياً ، إلا أنها ــ وفي نفس الوقت ــ قد تميل إلى الإبقاء على
تعزيز التفرقة القائمة بين الصفوة السياسية والجماهير ، إما عن طريق
وظيفتها التوجيهية ومثال ذلك ما تعينه التربية للأفراد من أدوار يقومون بها
في المجتمع ، أو من خلال وظيفتها التقنينية ويمثل ذلك تقنين الجماعة لسلطة
الصفوة وجعلها مشروعة يمكن أن يتقبلها ويرضخ لها الأفراد.
ومن ثم فإن نظم التعليم يمكن أن يكون عامل من عوامل عدم الاستقرار والتماسك بين الأفراد وخصوصاً بين الصفوة والجماهير . ومن هنا تقدم جميع الدول ،
وخصوصاً دول العالم الثالث على وضع سياسة تربوية متضمنة الأهداف التي تبغي
الدولة تحقيقها من العملية التربوية ، وإخضاع جميع المدارس سواء المدارس
التابعة للدولة أو المدارس الخاصة للإشراف الحكومي من أجل أن تسهم جميعاً
في تحقيق أهداف الدولة ، وتنشئة الطلاب بالصورة التي رسمها النظام السياسي.
ويبدو أن الاهتمام بموضوع التنشئة السياسية في الفكر الغربي بدأ ينخفض في السنوات الأخيرة لأن المفاهيم والقيم السياسية مستقرة وراسخة ،
وهذا بالطبع عكس ما كان يحدث في الستينات والسبعينات من القرن العشرين وقت
أن أزدهر موضوع التنشئة السياسية في حين تزايد الاهتمام بهذا الموضوع في
المجتمعات النامية نتيجة لعدم استقرار وتحديد القيم السياسية ، ولذلك فقد
ظهر في السنوات الأخيرة عدد كبير من الدراسات العربية في هذا المجال . ورغم أن اليمن أحد هذه المجتمعات إلا أن الاهتمام بموضوع التنشئة السياسية في الفكر اليمني بوجه عام لا يزال ضعيفاً جديداً.
لقد
تعرض مجتمعنا اليمني في السنوات الأخيرة لعدد من عوامل التغيير التي أثرت
على المفاهيم والقيم والاتجاهات السياسية ولعل أهم هذه العوامل قيام دولة
الوحدة عام 1990م. وما ترتب على ذلك من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية
مما يستوجب العمل على إكساب أبناء الوطن اليمني الواحد المفاهيم والقيم
والاتجاهات السياسية المناسبة في ضوء المتغيرات الجديدة وذلك عن طريق
المؤسسات التعليمية وما تقدمه لطلابها من ثقافة سياسية في المناهج الدراسية
في المستويات المختلفة.
ومع التسليم بأهمية المؤسسات التربوية غير النظامية والدور الذي يمكن أن تقوم به ،
إلا أن التنشئة السياسية من خلال المؤسسات التربوية النظامية يبقى لها
الدور الأكبر لكونها عملية منظمة ومنتظمة ، فهي منظمة لأنها تتم عن طريق
مقررات دراسية توضع خصيصاً لهذا الغرض ويقوم بتدريسها معلمون مؤهلون ، وهذا
يتم بطريقة منتظمة حيث يتعرض لها الطلاب طوال فترة دراستهم بالتعليم العام
، أي منذ دخولهم المدرسة وحتى تخريجهم منها.
كما ترجع أهمية المدرسة إلى كونها تأتي في أهم سنوات تكوين الاتجاهات والقناعات السياسية للناشئ ،
حيث تتفق الدراسات السابقة على أن التشكيل السياسي موجود مسبقاً في مرحلة
ما قبل المدرسة وأن أكثر مراحل نموه أهمية تتم بين سن المدرسة وأن أكثر
مراحل نموه أهمية تتم بين سن إحدى عشرة وخمس عشرة سنة ، وهو ما يؤكد على
أهمية التنشئة السياسية في مرحلة التعليم الأساسي ولاسيما الحلقة الثانية
منها.
ونظراً لتزايد أهمية التنشئة السياسية في ظل المتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية ، وبسبب عدم إجراء دراسات من قبل في اليمن ، وفي حدود علم الباحث حول دور المدرسة في التنشئة السياسية جاءت هذه الدراسة.
مشكلة الدراسة:
وبناءً على ما سبق ، تحددت مشكلة الدراسة في السؤال الرئيسي التالي:
"ما
دور المدرسة في التنشئة السياسية لطلاب الحلقة الثانية من التعليم الأساسي
في ضوء المتغيرات التي يشهدها اليمن منذ قيام دولة الوحدة عام (1990م)
وحتى الآن"؟
ويرتبط بهذا السؤال الأسئلة التالية:
1- ما دور المدرسة في التنشئة السياسية من خلال الثقافة السياسية المتضمنة في الكتب الدراسية الموجه لطلاب الحلقة الثانية من التعليم الأساسي؟
2- ما دور المدرسة في التنشئة السياسية من خلال المعلمين والأنشطة المدرسية التي يمارسها طلاب الحلقة الثانية من التعليم الأساسي؟
3- ما
نوع الأفكار والقيم والاتجاهات السياسية التي يتبناها طلاب الحلقة الثانية
من التعليم الأساسي اعتماداً على ما تقوم به المدرسة من تعليم سياسي لهم؟
هدف الدراسة:
هدفت هذه الدراسة إلى:
1- تعريف
الدور الذي تمارسه المدرسة في عملية التنشئة السياسية من خلال المعلمين
والكتب والأنشطة المدرسية في الحلقة الثانية من التعليم الأساسي؟
2- قياس التنشئة السياسية لدى طلاب الحلقة الثانية من التعليم الأساسي مقارنة بما تقوم به المدرسة من تعليم سياسي لهم.
أهمية الدراسة:
تتلخص أهمية هذه الدراسة في أنها:
1- تعتبر
وفي حدود علم الباحث أول دراسة يمنية تناولت بالأسلوب العلمي دور المدرسة
في التنشئة السياسية للطلاب من خلال الكتب الدراسية والمعلمين والأنشطة المدرسية ،
فضلاً عن تأثير المؤسسات الأخرى كالأسرة ووسائل الإعلام والأصدقاء
والمساجد... في التنشئة السياسية للطلاب ومدى اعتمادها عليها كمصادر
لمعلوماتهم السياسية مقارنة باعتمادهم على المدرسة.
2- تعد
في جزء منها بشكل مباشر تقييماً لكتب التربية الوطنية والتاريخ والجغرافيا
مما يساعد وزارة التربية والتعليم في اليمن في إعادة النظر في هذه الكتب
ومناهجها وتطويرها لترسيخ معاني ودعائم الوحدة ومعاني ودعائم النظام
الديمقراطي القائم في اليمن من خلال تقديم تربية سياسية سليمة للطلاب. كما
قد تفيد في توجيه أنظار القائمين على مؤسسات التنشئة السياسية المختلفة إلى
أهمية وضرورة إعادة تشكيل وتنمية الوعي السياسي لدى المواطن اليمني في ضوء
المتغيرات الجديدة المحلية والإقليمية والعالمية حيث أصبح من الضروري أن
يعي الفرد بما يجري حوله وإدراك واقعة وواقع وطنه وأمته في المجال السياسي.
3- تسهم
في إثراء الدراسات المهتمة بالعلاقة بين التعليم والسياسة التي زاد
الاهتمام بها في الوقت الحاضر نتيجة لتعاظم أهمية التعليم في المجتمعات
والدور الذي تلعبه السياسة والمشاركة السياسية في حياة المواطن وأمنه
واستقراره وفي أمن واستقرار المجتمع وتقدمه ،
حيث لم تعد السياسة والمشاركة السياسية حكراً على فئة دون الأخرى ولم تعد
ترفاً فكرياً وهو ما يؤكد على أهمية دراسة التنشئة السياسية التي تعد -
وبحق - حلقة الوصل بين التربية والتعليم وبين السياسة.