الإيمان وأثره في توجيه السلوك
الحمد
لله الذي أنزل كتابه الكريم هدى لِلْمُتَّقين، وعبرة للمعتبرين، ورحمة
وموعظة للمؤمنين، ونبراسًا للمهتدين، وشفاءً لما في صدور العالمين؛ أحمده
-تعالى- على آلائه، وأشكره على نعمائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوب،
وزكَّى به النفوس، وهدى به من الضلالة، وذكَّر به من الغفلة، وأمر فيه
بالتقوى. فسبحان من يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى!
إذا المرءُ لم يلبَسْ ثيابًا مِن التُّقَى *** تقلَّبَ عُرْيَانًا وإنْ كانَ كَاسِيًا
وخيـرُ لبـاسِ المرءِ طاعةُ ربِّهِ *** ولا خيْرَ فيمَنْ كان لله عاصيًا
وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله عليه وعلى آله
وصحبه، ومَن ترسَّم خطاه وسار على نهجه، ما تعاقب الجديدان، وتتابع
النيِّران، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: كم هي الآيات التي يدعونا الله فيها إلى الإيمان! ما
تكاد تجد سورة في القرآن إلا وفيها دعوة صريحة، أو إشارة إلى أهمية الإيمان
وأثره في حياة الفرد والمجتمع والأمة، قال -تعالى-: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) [النساء:136].
وكم هي نداءات الرحمن في القرآن الكريم لعباده بأعظم صفة وهي صفة
الإيمان التي جعلها الله شرطًا لقبول الأعمال والعبادات، ورتب عليها الجزاء
في الأخلاق والسلوك والمعاملات، فقال -تعالى-: (وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء:124].
وقال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طه:112]، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) [طه:75].
إنه الإيمان بقوة الله وقدرته، وعلمه، وعظمته، وسعة ملكه وسلطانه؛
إنه الإيمان بحُكمه وعدله، وعفوه ورحمته، ونصره وتأييده لعباده المؤمنين.
فالإيمان هو حياة الإنسان الحقة، وبغيره يكون كالميت: (أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام:122].
والإيمان قوة هادية؛ لأنه يحدد للإنسان وجهته، ويعرّفه غايته ومنهجه، فيحيا على نور، ويمضي على بصيرة: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه) [التغابن:11]، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) [آل عمران:101].
والإيمان ينير الطريق، ويحقق الطمأنينة والراحة النفسية، ويباعد بين المؤمن والقلق والحيرة، والهم والحزن، والتمزق داخل النفس؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، (وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31].
فلا إله إلا الله كلمة عظيمة؛ من أجلها خلق الخلق، وبعث الرسل،
وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار، فكان الإيمان بها وبمقتضياتها من أعظم
الواجبات.
فعن أبى سعيد الخدري قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "قال
موسى -عليه السلام-: يا رب: علِّمْنِي شيئًا أذكرك به، وأدعوك به. قال: يا
موسى: قل: لا إله إلا الله. قال: يا رب: كل عبادك يقولون هذا، إنما أريد
شيئًا تخصني به. قال: يا موسى: لو أن السماوات السبع والأرضين السبع في
كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله". رواه البخاري.
والإيمان المطلوب من كل عبد أن يحققه في نفسه هو ذلك الإيمان الذي
يورث الخشية والخوف من الله، والحب لله، والرجاء منه؛ وهو ذلك الإيمان الذي
يهذب النفوس، ويقوّم الأخلاق، وبه يستقيم السلوك، وينتشر الخير.
وهذا الإيمان يزداد بالطاعات من صلاة، وصيام، وحج، وصدقة، وقراءة
للقرآن، وتفكُّر في مخلوقات الله، وغيرها من الطاعات؛ وينقص بالمعاصي
والسيئات، حتى يمشي الرجل بين الناس وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
إنَّ تنميةَ العقيدة والروح الإيمانية أعظم ضماناتٍ لسلامة المجتمع
الإسلامي، وأقوى أسباب تماسكه ووحدته؛ فهو يصهر الشعوب والقبائل والأعراق
واللغات في رحاب المجتمع الواحد، الذي يعبد الإله الواحد، ويتبع النبي
الواحد، ويؤمن بالكتاب الواحد؛ بل ويضبط التصوراتِ والأفعالَ والسلوكَ وفق
قيمٍ واحدة، هدفها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
عباد الله: ولما كان للإيمان هذا الأثر العظيم في حياة المسلم فقد
رأينا أن نتحدث في هذه السلسة -بإذن الله- حول الإيمان وأثره في واقع
حياتنا، خاصة وقد ظهر كثيرٌ من الأمراض الاجتماعية والنفسية والسلوكية
والأخلاقية بسبب ضعف الإيمان، والتعلق بالدنيا، ونسيان الآخرة، وبسبب هذه
الحضارة المادية التي لا تعطي الروح أية أهمية؛ بل ظل اهتمامها فقط بالجسد،
فرأينا المخترعاتِ العملاقةَ، والمنتجات المتنوعة، والصناعات المختلفة
التي تهتم بجسد هذا الإنسان: كيف يأكل ويشرب ويترفه وينام.
فأين غذاء الأرواح الذي به تسعد النفوس، وتزدهر المجتمعات، وتبنى
الحضارات؟! أين القيم والمبادئ والأخلاق؟! أين حب الإنسان لأخيه الإنسان؟!
أين الإيمان الذي يصنع الفرد والأسرة والمجتمع صناعة تضمن لهم جميعًا
طمأنينة النفس، وراحة البال، وانشراح الصدر، وخيرية الدنيا، والنجاة يوم
القيامة؟!
إن آثار الإيمان كثيرة في حياتنا؛ فمن آثاره توجيه السلوك وتهذيبه.
إن مَن ينظر إلى سلوكيات وتصرفات كثير من الناس اليوم يجد فيها البغي
والظلم، والتقاطع والعقوق والجفاء، والتهرب من المسؤولية، والتنصل من
الواجبات، والعنف والشدة، ونكران المعروف وحب الذات؛ بل أصبحت السلوكياتُ
بعيدةً عن أوامر الدين وتوجيهات الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، لا
يتحكم بها الشرع؛ بل يتحكم بها الهوى والمنافع والمصالح الشخصية.
إن الإيمان كفيلٌ بعلاج الانحرافات؛ فهو يغرس في كل فرد قضيةَ
مراقبةِ الله، والسعي لنيل الأجر والثواب، والخوف من العقاب، فيحرص المؤمن
على أن يكون سلوكه حسَنًا مع الناس جميعًا؛ بل حتى مع الحيوان والبيئة التي
حوله، وهذه هي رسالة الإسلام، وثمرة من ثمار الإيمان.
والإيمان هو الذي يوجه السلوك في البيت، ومع الجيران، وفي الوظيفة،
وفي السوق، ويجعل من العادة عبادة؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن
كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلْيُكْرِم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو
لِيَصْمُت". متفق عليه.
و عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ". رواه الترمذي.
وفي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ". رواه مسلم.
والإيمان يدعونا إلى نهج السلوك الحسن مع الخلق جميعًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللَّعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء". صحيح الجامع.
والإيمان يوجه سلوك المسلم في أي ميدان من ميادين الحياة إلى الخير،
فللتاجر الصدوق منزلةٌ رفيعةٌ يتسابق إلى بلوغ شرفها المؤمنون، قد بشّر
بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيّين والصدّيقين والشّهداء". رواه الحاكم والترمذي.
وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلَّى بجانب السوق
يومًا، فرأى الناس يتبايعون، فقال: "يا معشر التجار"، فاستجابوا، ورفعوا
أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: "إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجّارًا، إلا من اتقى الله، وبَرَّ، وصدق". رواه الترمذي.
وانظروا إلى ما يصنع الإيمان، وكيف يضبط السلوك ويوجه التصرفات: في
عام الرمادة، وقد بلغ الفقر والجوع بالمسلمين مبلغًا عظيمًا، جاءتْ قافلةٌ
لعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ مُؤَلَّفةٌ مِن أْلفِ بَعْيِرٍ، مُحَمَّلَةٌ
بالتَّمْرِ والزَّبيْبِ والزَّيْتِ وغيرِها من ألوانِ الطعامِ، فجاءَهُ
تُجّارُ المدينةِ المُنَوَّرَةِ مِنْ أَجْلِ شِرائِها منه، وقالُوا لهُ:
نُعْطيكَ ربحًا بَدَلَ الدِّرْهَم دِرْهَمَينِ يا عثمان. قالَ عثمانُ:
أُعْطِيْتُ أكثرَ مِنْ هذا. قالوا: نَزِيْدُكَ، الدِّرْهَم بخَمْسة. قالَ
لَهُمْ: لَقَدْ زادنَي غيرُكم الدِّرْهَم بَعَشَرة. قالوا له: مَنِ الذي
زادَكَ، ولَيْسَ في المدينةِ تُجّارٌ غيرنا؟! قالَ عثمانُ: أَلَمْ
تَسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ -تعالى-: (مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فلهُ عَشْرُ أمثاِلهَا)؟! أُشْهِدُكُمْ أنّي قَدْ بِعْتُها للهِ ورسولهِ. فأنفقها في سبيل الله.
فلو لم يكن هناك إيمان لكان الجشع والطمع واستغلال حاجات الناس وظروفهم؛ لكنه الإيمان.
عباد الله: والإيمان يمنع الغش والتحايل والخيانة، كان عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- يتجول ليلاً بالمدينة، ومعه خادمه، فأعياه التعب،
فاتكأ إلى جدار بيت، وإذا بامرأة تقول لابنتها: قومي إلى اللبن فامزجيه
بالماء، فقالت الفتاة: يا أماه: أوَمَا سمعتِ منادي الخليفة ينادي: لا
يُخْلَط اللبن بالماء؟! فقالت: إن عمر لا يرانا، فقالت الفتاة: إنْ كان عمر
لا يرانا فإن رب عمر يرانا.
فلما سمع الخليفة كلامها قال لخادمه: اعرف مكان البيت، ثم مضى عمر
-رضي الله عنه- في جولاته، فلما أصبح قال للخادم: امضِ إلى المكان فانظر
مَن الفتاة؟! وهل لها زوج؟! قال الخادم: أتيت البيت فعلمت أنه ليس لها زوج،
فعدت إلى الخليفة فأخبرته الخبر، فجمع أولاده وقال لهم: هل فيكم من يحتاج
إلى الزواج فأزوجه؟! فزوجها لابنه عاصم.
عرفت ربها وعرفت معنى مراقبته، والسلوك الذي يجب أن تلتزم به، فخلّد
التاريخ قصتها لتُروى للأجيال لتكون مثلاً للاقتداء. فمتى ينتبه الموظف
لسلوكه وتصرفاته في وظيفته؟! ومتى يدرك القاضي دوره ومسؤوليته؟! ومتى يشعر
الجندي بواجبه في حماية الأعراض والدماء والأموال؟! عن ابن عباس، عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". رواه الترمذي.
ومتى يدرك الأبناء أهمية البر بالآباء؟! ومتى تقوم المرأة بواجبها
في التربية وبناء الأسرة المسلمة؟! إن ذلك كله لن يكون واقعًا في الحياة
حتى تمتلئ هذه القلوب بالإيمان بالله.
إنه الإيمان الذي يضبط السلوك حتى في أحلك الظروف وأصعب الأزمات،
فهذه الخنساء -رضي الله عنها- عُرفت بالبكاء والنواح، وإنشاء المراثي
الشهيرة في أخيها المتوفَّى إبان جاهليتها، وظلت ترثيه سنوات، تقول فيه:
يُذَكِّرُنِي طلوعُ الشمسِ صَخْرًا *** وأذْكُرُهُ بكُلِّ غُرُوبِ شَـمْسِ
ولـولا كثرةُ الباكينَ حَـوْلِي *** عَـلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
ومـا يبْكُونَ مِثْلَ أَخِي، وَلَكِنْ *** أُعَـزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِـالتَّأَسِّي
وما إن لامس الإيمان قلبها، وعرفت مقام الأمومة، ودَور الأم في
التضحية والجهاد في إعلاء البيت المسلم ورفعة مقامه عند الله، وعظت أبناءها
الأربعة عندما حضرت معركة القادسية تقول لهم: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم
مختارين، وإنكم لابْنُ أبٍ واحد، وأم واحدة، ما خبث آباؤكم، ولا فُضحت
أخوالكم.
فلما أصبحوا باشروا القتال واحدًا بعد واحد حتى قُتلوا، ولما بلغها
خبرهم ما زادت على أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو ربي أن
يجمعني بهم في مستقر رحمته.
لَقَد قَصَدَ الإسْلامُ أنْ يكُون الإِنسان مَثَلاً صَالحًا محمُود
الخصال، شريف الشمائل، حسَنَ السلوك، إن تكلم صَـدَقَ، وإنْ وَعَدَ وَفَى،
وإن اؤتُمِنَ في أمْرٍ أَدَّى الأمانَةَ وَلَمْ يَخُنْ، وإنْ رَأى أمرًا
مُنْكرًا غَيَّرهُ بيَدِه، فإِنْ لمْ يَسْتَطعْ فَبِلسانه، فإن لم
يَسْتَطعْ فَبِقَلْبه، وإن تَكَلم غضَّ مِن صَوْتِه، وَإن مَشَى لَم يَكُن
مُخْتَالاً ولا فخورًا في مشيتِه، وإنْ رأى كَبيرًا وَقَّره، أو صغيرًا عطف
عليه، أو محتاجًا أعانه.
اللهم زَيِّنْ قلوبنا بالإيمان. قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد
الله: والإيمان يوجه سلوك الفرد المسلم تجاه أمته ومجتمعه التوجيه الأمثل،
فالمسلم لا يعيش لنفسه وحسب؛ بل يعيش لمجتمعه وأمته، قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: "مَثَلُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ
الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ
بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". رواه مسلم.
فيفرح المسلم لفرح المسلمين، ويحزن لحزنهم، ويتألم لمصابهم، ويسعى لنصرتهم، ولا يوالي عدوهم؛ بل ويشاركهم في همومهم وتطلعاتهم.
وانظروا إلى سلوك المسلمين في غزوة تبوك وقد دعاهم رسول الله للخروج
للجهاد في سبيل الله في وقت شديد الحرارة، وقد بلغ بهم الفقر والحاجة
مبلغًا عظيمًا، فخرج مَن خرج، وتصدق من تصدق، وجاء الفقراء يريدون مشاركة
المسلمين في شرف الجهاد؛ لكنهم لا يملكون زادًا ولا راحلة، فتولوا وأعينهم
تفيض من الدمع، قال -تعالى-: (وَلا
عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 92].
دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للإنفاق فذهب الفقراء
والأغنياء كل إلى بيته كي يأتي بما يستطيع، وذهب معهم رجل من الصحابة فقير
لا يجد في بيته غير حبة تمر واحدة، فجاء بها إلى رسول الله ليضعها في
الصدقات، فرآه المنافقون وأخذوا يسخرون منه، فأنزل الله قوله -تعالى-: (الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ
اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:79].
إن وقوف المسلمين اليوم مع إخوانهم المضطهدين من الطغاة والظلمة في
محنتهم ولو حتى بالدعاء لدلالة واضحة على هذا الإيمان الذي يملأ قلوب كثير
من الناس، والذي يحتاج إلى رعاية وزيادة حتى يجني العبد ثماره في الدنيا
قبل الآخرة.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وَزَيِّنْهُ في قلوبنا، وكَرِّهْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
هذا، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة
المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة
والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه
الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، وعَنَّا معهم بِمَنِّكَ ورحمتك يا أرحم الراحمين.
حسان أحمد العماري