الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرض والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ـ
عتبة بن غزوانالصحابي الذي طلب من ربه الإعفاء من الإمارة فاستجاب لههو: عُتْبة بن غَزْوان بن جابر بن وهب المازني، حليف بني شمس، أو بني نوفل.
أحد
الرماة البارزين الأقوياء، وسابع سبعةٍ شرح الله صدورَهم للتوحيد
والإيمان، والدعوة في مهدها الأول، فصبروا، وصابروا، ووقفوا في وجه الشرك
وأهله، دون اكتراثٍ بكل ما يترتب على ذلك من نكال وتعذيبٍ.
وحينما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، كان عُتْبة من طلائع الإيمان المتجهة إلى شرق إفريقيا؛ فرارًا بدين الله - تعالى - ونشرًا له في الأرض ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
إلا أن مُكثه في الحبشة لم يَدُم طويلاً،
فقد حمله الحنين والشوق إلى تحمُّل وَعثاء السفر، وطوى البر والبحر؛ حتى
يعيش بجوار الهادي البشير مهما كلَّفه ذلك من تضحيات، ويبقى عُتْبة في مكة
مع ما فيها من صراع يبن الحق والباطل ما تعاقب الجديدان، حتى أذِن الله - تعالى - للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وللمسلمين بالهجرة، فكان من أوائل المهاجرين إلى المدينة النبوية.
ومنذ أن قامت للإسلام دولة بالمدينة، وقريش بشركها تتحرَّش بالمسلمين من حين لآخر، كان عتبة - رضي الله عنه - في الصفوف الأولى من صفوف المجاهدين؛ دفاعًا عن عقيدة الحق، وهدمًا لعقائد المشركين والمنافقين.
وعندما لحِق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، لم تَضعُف عزائم بعض الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - ومن بينهم عُتْبة، بل بَقِي ثابتًا على دينه وجهاده في رحلة الحياة الدنيا، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
أرسله أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب - إلى الأُبُلَّة؛
ليفتحها ويُطهرها من أرجاس الفرس الذين دنسوها واتخذوها نقطة لانقضاضهم
على الإسلام والمسلمين، وقد رسم له الفاروق المنهج الذي يسير عليه في
جهاده، فقال له: "انطلق أنت ومن معك، حتى تأتوا أقصى بلاد العرب، وأدنى
بلاد العجم، وسِرْ على بركة الله ويُمنِه، ادعُ إلى الله مَن أجابك، ومن
أبَى فالجزية، وإلا فالسيف في غير هَوادة، كابدًا العدو، واتقِ الله ربك".
ومضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يتكافأ مع جيش العدو عدَّة أو عتادًا، ولكن الإيمان جعلهم لا يَكترثون بما سوى الله - تعالى - ولا يحسبون له حسابًا.
ولما
قدموا الأُبُلَّة وجدوا أن جيش العدو يفوق جيشهم بكثير، ومع هذا فقد نظَّم
عتبة جيشه، ووقف في مقدمته حاملاً رمحه، وصاح في جنده قائلاً: "الله أكبر،
صدق وعده"، وما هي إلا جولات يسيرة، حتى أظفرهم الله برقابهم، ونصرهم
عليهم.
إن كلامهم لم يكن جزافًا أو تخمينًا، بل إنه من الفراسة الصادقة التى تنطق بنور الله - تعالى - فنعم، لقد صدق الله وعده، وهكذا يَعِد المؤمنين، وهو مُنجِز لهم ما وعدهم به.
وقد
اختطَّ عتبة مدينة البصرة مكان "الأُبُلَّة"، وبنى مسجدها العظيم، وأراد
أن يعود إلى المدينة النبوية فارًّا بدينه من الإمارة، لكن الفاروق أمره
بالبقاء، ولا يسعه إلا السمع والطاعة.
ومكث حينًا من الدهر يصلي بهم ويُفقههم في دينهم، ويحكم بينهم بالعدل، ويضرب المثل الأعلى: في الورع، والزهد، والبساطة.
واستمر
محاربًا للترف والسرف بكل قواه، حتى أُصيب أصحاب الشهوات بالملل والسآمة،
فوقف فيهم خطيبًا، وقال: "والله لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة، وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرِحت أشداقنا".
"ولقد رُزقت يومًا بردة، فشَققتها نصفين، أعطيت نصفها سعد بن مالك، ولبست نصفها الآخر".
كان - رضى الله عنه - شديد
الفرار من الدنيا وزخرفها؛ حتى لا يُفتتن بها، ولَمَّا حاوَل بعضهم أن
يقنعه بأن يأخذ حظه من الدنيا؛ حتى يكون مظهره مناسبًا للإمارة، فرد عليهم
قائلاً: "إني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيمًا، وعند الله صغيرًا".
ولَمَّا
لاحظ الضيق والتضجر من صرامته وحزمه في أمور الإمارة،وأن حواشي السلطة لم
يجدوا نفعًا على حساب المسلمين، قال لهم مبيِّنًا عُذره: "غدًا ترون الأمراء من بعدي"!
وجاء
موسم الحج، فاستخلف على البصرة أحد إخوانه،وخرج حاجًّا، فلما قضى المناسك
ذهب إلى المدينة، وهناك سأل أمير المؤمنين أن يُعفِيه من الإمارة!
وما كان لعمر - رضى الله عنه - أن يعفيه من الإمارة،والمسلمون في أمسِّ الحاجة إلى أمثال هؤلاء الزاهدين القانعين، فكان يقول لهم: "تضعون أماناتكم فوق عنقي، ثم تتركونني وحدي! لا والله لا أعفيكم أبدًا".
ولم يكن في وسع عتبة - رضي الله عنه - غير السمع والطاعة،واستقبل راحلته ليعود إلى البصرة.
ولكنه قبل أن يركب دابته - توجَّه إلى ربه - داعيًا
ألاَّ يردَّه إلى البصرة ولا إلى الإمارة أبدًا، واستجاب الله دعاءه،
فمثله لا تُرَد دعواته، فبينما هو سائر في طريقه إلى البصرة، أدركه الموت،
وفاضت روحه إلى الرفيق الأعلى - عز وجل - فرضي الله عنه، وعن أمثاله من الصحابة المجاهدين.
المصدر