السؤال: كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقي الحديث القدسي ؛ عن طريق جبريل أو عن أي طريق ؟الجواب :
الحمد لله
الحديث القدسي وحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
وقد اختلف الناس في الحديث القدسي : هل لفظه ومعناه من الله تعالى ، أم إن معناه من الله ولفظه من رسوله صلى الله عليه وسلم :
فاختار بعضهم أن الحديث القدسي ، لفظه ومعناه ، موحى من الله تعالى .
قال الزرقاني رحمه الله :
" الحديث القدسي الذي قاله الرسول حاكيا عن الله تعالى : فهو
كلام الله تعالى أيضا ، غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن
كل ما سواه .
ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزا وغير معجز
، لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف من إقامة حجة للرسول ولدين الحق
بكلام الله المعجز ، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز ؛ لأنه تصح روايته
بالمعنى وقراءة الجنب وحمله له ومسه إياه إلى غير ذلك .
وصفوة القول في هذا المقام : أن القرآن أوحيت ألفاظه من
الله اتفاقا ، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور ،
والحديث النبوي أوحيت معانيه ـ في غير ما اجتهد فيه الرسول ـ والألفاظ من
الرسول .
بيد أن القرآن له خصائصه : من الإعجاز ، والتعبد به ، ووجوب
المحافظة على أدائه ، بلفظه ونحو ذلك ، وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من
هذه الخصائص .
والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن ، فلو
أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه وكان مظنة للتغيير والتبديل واختلاف الناس
في أصل التشريع والتنزيل .
أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط
إعجاز , ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى ، ولم يمنحهما تلك الخصائص
والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم , تخفيفا على الأمة , ورعاية
لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع , إن الله بالناس لرءوف رحيم "
انتهى .
"مناهل العرفان" (1/37-38) .
واختار بعض أهل العلم القول الثاني ، وذهب إلى أن الحديث القدسي موحى من الله تعالى بمعناه ، دون لفظه :
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
وقد اختلفَ العلماءُ رحمهم الله في لَفْظِ الحديثِ
القُدْسيِّ : هل هو مِن كلامِ الله تعالى أو أنّ الله تعالى أَوْحَى إلى
رسولِه صلى الله عليه وسلم مَعْنَاه ؛ واللفظُ لَفْظُ رسولِ الله صلى الله
عليه وسلم ؟ على قولينِ :
القول الأول : إنّ الحديثَ القُدْسيَّ مِن عند الله لَفْظُهُ
ومعناهُ ، لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أضافهُ إلى الله تعالى ، ومِن
المعلومِ أنّ الأصلَ في القولِ المضافِ أنْ يكونَ بِلَفْظِ قائِله لا
ناقلِه ، لا سيَّمَا أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقوى الناسِ أمانةً
وأوثقهم روايةً .
القول الثاني: إنّ الحديث َ القُدْسِيَّ معناه مِن عند الله ، ولفظهُ لفْظُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الراجح .
ثم لو قيلَ : إنّ الأَوْلَى تركُ الخوضِ في هذا ، خوفًا مِن
أنْ يكونَ مِن التنَطُّعِ الهالكِ فاعلُهُ ، والاقتصارُ على القول : بأنّ
الحديثَ القُدْسِيَّ ما رواه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن رَبِّهِ وكفى
، لكانَ كافيًا ، ولعلّه أَسْلَمُ والله أعلمُ " انتهى مختصرا .
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (9/59-62) .
ومع أن الخلاف في المسألة سائغ ومشهور بين أهل العلم ، فالقول الأول ، وهو أن الحديث القدسي موحى بلفظه ومعناه ، أظهر وأولى .
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله
" الحديث القدسي كلام الله لفظاً ومعنًى ، ولهذا يقول النبي
صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه، أنه قال : قال الله تعالى قال في
حديث أبي ذر : " قال الله تعالى: إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم
محرماً ، فلا تظَّالموا " رواه مسلم .
وهو كلام الله لفظاً ومعنًى ، لكن يختلف عن القرآن : القرآن
كلام الله لفظاً ومعنًى ، والأحاديث القدسية كلام الله لفظه ومعناه . لكن
له أحكام خاصة تختلف عن أحكام القرآن : القرآن لا يمسه إلا متوضئ
والأحاديث القدسية يمسها غير المتوضئ ، القرآن يُتَعَبَّدُ بتلاوته
والحديث القدسي لا يُتَعَبَد بتلاوته ، فله أحكام تختلف ...
ولو كانت الأحاديث القدسية معناها من الله ولفظها من الرسول
لما صار هناك فرق بين الأحاديث القدسية وغيرها ، ولما أضاف النبي صلى الله
عليه وسلم هذا إلى ربه ، قال : قال الله ، عن ربه أنه قال ، فنسبه إلى
الله ، أضافه إلى الله ، قال : " قال الله: إني حرمت الظلم على نفسي "
انتهى .
وأيا ما كان الراجح من القولين ، فالقولين يتفقان على أن
الحديث القدسي وحي من الله تعالى ، ولذلك ينسب إليه ، فيقال : قال الله
تعالى ، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة ...
وإذا كان وحيا من الله تعالى ، فإن الوحي به يكون بنفس طرق الوحي الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى :
( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا
وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الشورى/51 .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل ، وهو أنه
تعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه
من الله عز وجل ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي: أن نفسا لن تموت حتى
تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" .
وقوله: { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } : كما كلم موسى عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم ، فحجب عنها .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن
عبد الله: "ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا "
الحديث ، وكان أبوه قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية
إنما هي في الدار الدنيا.
وقوله : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا
يَشَاءُ } كما ينزل جبريل عليه السلام ، وغيره من الملائكة ، على الأنبياء
عليهم السلام " انتهى .
"تفسير ابن كثير" (7/217) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند شرحه لحديث : (إن الله قد كتب الحسنات والسيئات) :
" قَوْله : ( فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ ) : هَذَا مِنْ
الْأَحَادِيث الْإِلَهِيَّةِ , ثُمَّ هُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا
تَلَقَّاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ بِلَا
وَاسِطَةٍ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِمَّا تَلَقَّاهُ بِوَاسِطَةِ
الْمَلَك وَهُوَ الرَّاجِحُ " انتهى .
"فتح الباري" (11/323) .
ومن طرق تبليغ الرسالة إلى الرسل الكرام ، وإنزال الوحي
عليهم : الرؤيا المنامية ، وهي داخلة في الوحي المذكور في قوله تعالى : (
إلا وحيا ) .
قالت أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : (
كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى
رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ) .
رواه البخاري (4954) ومسلم (160) .
والله تعالى أعلم .
الإسلام سؤال وجواب