السلام عليكم ورحمة الله
- الحكمة من الاسراء إلى بيت المقدس
- الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من درس: ثبوت الإسراء والمعراج بالجسد والروح
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟
فالجواب والله أعلم: أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق
دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعراج حين سألته قريش
عن نعت بيت المقدس،
فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كَانَ عروجه إِلَى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطَّلاعهم
عَلَى ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة
العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] اهـ.
الشرح:
يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم-]
نسب العلم إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونسبة العلم إليه أسلم وهو أدب من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها العالم والمتكلم في هذه الأمور التي لا يستطيع الجزم فيها، ولاسيما ما يتعلق بالحكمة، فنحن لا نعرف ولا ندرك هذه الحكمة، فمنها ما هو ظاهر يدرك
بالفهم وبالنظر السليم الصحيح، ومنها أمور خفية ودقيقة لا يمكن أن ندركها بنفس القوة في القطع والجزم، ومنها ما لا يدرك أصلاً.
فعلى الإِنسَان أن يرد العلم إِلَى الحكيم العليم
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ: والله أعلم، هذا خير وأفضل وأسلم في
أمثال هذه الأمور،
فهو من الآداب التي ينبغي علينا أن نتحلى بها، فلا نجزم في شيء لا نملك عليه دليلاً نستطيع معه أن نجزم.
فَيَقُولُ:
[أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ المعراج]، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى كل شيء قدير ويستطيع أن يعرج به إِلَى السماء، وأن يأتي بأي دليل آخر عَلَى إثبات هذه الواقعة غير الإسراء، قبله أو بعده، أو بأي أمر
من الأمور، فلا نستطيع أن نحد قدرته ومشيئته وإرادته، لكن هذا جانب من جوانب الحكمة التي تظهر لنا،
أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يريد إظهار صدق دعوى المعراج، فكان الإسراء مهلاً له
فلذلك حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس نعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، وهذا بعض الحكمة، لأن قريشاً تعرف بيت المقدس وتسافر وترتحل إليه وهذا أمر مشهود معروف عندهم، كما في حديث أبي سفيان مع هرقل ،
حين قبض عليه أعوان هرقل كان في أرض الشام ، وهم
يعرفون ذلك المسجد، فحينما يخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بأنه أسري به
إِلَى بيت المقدس ثُمَّ يخبرهم أنه عرج به إِلَى السماء، نجد أن هناك نوعاً من النقلة النفسية، وهو خارق بلا شك،
فلذلك قالوا: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها في ليلة، لكن أعظم منه وأدهى وأشد أن يعرج
به من ذلك المسجد إِلَى السماء، فهذا شيء بعيد جداً؛ لأنهم يجادلون ويمارون في هذا الأقل.
لكن عندما يكون لديك أمران: أحدهما مستحيل في نظرك، ثُمَّ يأتي بعده ما هو أكثر استحالة منه، فإن هذا يدفعك إِلَى
أنك تكاد أن توافق بالأمر البسيط، وتقول: ما دام أن فيها كذا نسلم بهذا الأقل والأهون، وهذا أمر يمكن أن يجادل فيه، فلهذا
جاءوا يجادلون كيف ذهبت؟ فلما طلبوا منه وصف المسجد أظهره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمامه المسجد، فأخذ يراه رأي العين
ويصفه لهم حتى أيقنوا وصدقوا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أسري به، وكان ذلك تصديقاً قلبياً وليس تصديقاً إيمانياً، ووقر
ذلك في قلوبهم، كما قال الله تعالى:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[الأنعام:33]
فجحدوه بعد أن وقر في قلوبهم.
ومن الحِكَمِ الأخرى أن بيت المقدس هو مهبط النبوة قبل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنبياء بني إسرائيل
بعثوا في تلك الأرض المقدسة، وهناك القبلة الأولى
التي كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يستقبلونها،
إذاً فهناك ربط
بين هذا النبي الجديد وبيئته وبلدته الجديدة -النبوة الخاتمة- وبين مهبط النبوة السابقة لها أيضاً، وفيه إشعار بأن
هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مكمِّل ومتمِّمٌ لرسالات الأَنْبِيَاء قبله، فهو خاتمهم، ولم يأتِ في باب
التوحيد والإيمان بجديد
عما جاءوا به في أصَلِ القضية، وإنما دعا إِلَى ما دعوا إليه.
فعلى كل من يقر بنبوة الأَنْبِيَاء ويثبتها من
أهل الكتاب بالأخص أن يؤمنوا بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وكذلك ما حصل فيه
من صلاته بجميع الأَنْبِيَاء صلَى الله عليم وسلم
في ذلك المكان، وهذا أيضاً تحصل به الحكمة، إذا كَانَ الإسراء أولاً،
ثُمَّ بعد ذلك المعراج،
وأن العبادة موضعها هي هذه الأرض في هذه الدنيا،
لا سيما في مثل هذا المقام الذي يراد منه أن يظهر فضل النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في العبودية عَلَى بقية الأنبياء، ولهذا صلَّى
بهم إماماً فجمعهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له، وأمهم النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهبط الدعوة،
فكان بذلك إيذاناً بأنه أكملهم في العبودية.
فالنبوة حصرت في ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام،
ثُمَّ كانت النبوة في فرع إسحاق فنقلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى فرع إسماعيل، وكلاهما أبناء إبراهيم الخليل عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم، ويمكن أن نستنبط حِكَماً كثيرة غير التي ذكرها
المُصنِّف وإن كانت هذه التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ من أظهر وأجلى الحكم.
والله أعلم