قال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين: [3/77- 84 بتصرف]
وفي قوله [أنت عليَّ حرام]، أو [ما أحل الله علي حرام]، أو [أنت علي حرام كالميتة أو الدم أو لحم الخنزير] مذاهب:
1-
أنه لغو وباطل لا يترتب عليه شيء، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي
الله عنه ، وبه قال مسروق، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعطاء، والشعبي،
ودوُاد، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قولي المالكية،
واختاره أصبغ.
2- أنه ثلاث تطليقات، وهو قول علي بن أبي طالب وزيد بن
ثابت وابن عمر رضي الله عنهم، والحسن البصري، وابن ليلى. وحجة هذا القول:
أنه لا تحرم عليه إلا بالثلاث؛ فكان وقوع الثلاث من ضروة كونها حراماً
عليه.
3- أنها بهذا القول حرام عليه؛ صح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله
عنه ، والحسن، وخلاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة. ولم يذكر هؤلاء
طلاقاً بل أمروه باجتنابها فقط، وصح ذلك عن علي رضي الله عنه ؛ فإما أن
يكون عنه روايتان، أو يكون أراد تحريم الثلاث، وحجة هذا القول: أن لفظه
إنما اقتضى التحريم ولم يتعرض لعدد الطلاق؛ فحرمت عليه بمقتضى تحريمه.
4-
الوقف فيها، صح ذلك عن علي رضي الله عنه ، وهو قول الشعبي. وحجة هذا
القول: أن التحريم ليس بطلاق، وهو لا يملك تحريم الحلال، وإنما يملك إنشاء
السبب الذي يحرم به وهو الطلاق، وهذا ليس بصريح في الطلاق، ولا هو مما ثبت
له عرف الشرع في تحريم الزوجة؛ فاشتبه الأمر فيه.
5- إن نوى به الطلاق
فهو طلاق، وإلا فهو يمين، وهذا قول طاووس، والزهري والشافعي ورواية عن
الحسن. وحجة هذا القول: أنه كناية في الطلاق؛ فإن نواه به كان طلاقاً، وإن
لم ينوه كان يميناً لقوله تعالى [يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك(
إلى قوله ) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم]
6- أنه إن نوى بها الثلاث
فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة، وإن نوى يمينا فهو يمين، وإن لم ينوي
شيئاً فهي كَذْبَة لا شيء فيها، قاله سفيان، وحكاه النخعي عن أصحابه. وحجة
هذا القول: أن اللفظ يحتمل لما نوه من ذلك فيتبع نيته.
7- مثل هذا، إلا
أنه إن لم ينوي شيئاً فهو يمين يكفرها، وهو قول الأوزاعي. وحجة هذا القول
ظاهر قوله تعالى ) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم(
8- مثل هذا أيضاً إلا أنه إن لم ينو شيئاً فواحدة بائناً إعمالاً للفظ التحريم.
9-
أن فيه كفارة الظهار، وصح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه ، وأبي قلابة،
ووهب بن ابن منبه، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وحجة هذا القول أن
الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمِّه المحرَّمة عليه ظهاراً، وجعله منكراً
من القول وزوراً؛ فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهراً؛ فإذا صرح
بتحريمها كان أولى بالظهار.
وهذا أقيس الأقوال وأفقهها، ويؤيده أن الله
لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل، وإنما ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له
مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحليل والتحريم، فالسبب إلى
العبد وحكمه إلى الله تعالى؛ فإذا قال:" أنت عليَّ كظهر أمَّي" أو قال:"
أنتِ علي حرام" فقد قال المنكر من القول والزور، وكذب. فإن الله لم يجعلها
كظهر أمه، ولا جعلها عليه حراماً؛ فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور
أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار.
10- أنها تطليقة واحدة وهي إحدى
الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقول حماد بن سليمان شيخ أبي
حنيفة. وحجة هذا القول: أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث؛ بل
يصدق بأقله، والواحدة متيقنة؛ فجعل اللفظ عليها لأانها اليقين؛ فهو نظير
التحريم بانقضاء العدَّة.
11- أنه ينوي ما أراده من ذلك في إرادة أصل
الطلاق وعدده، وإن نوى تحريماً من غير طلاق فيمين مُكَفَّرة، وهو قول
الشافعي. وحجة هذا القول: أن اللفظ صالح لذلك كله؛ فلا يتعين واحدة منها
إلا بالنية، فإن نوى تحريماً مجرداً كان امتناعاً منها بالتحريم كامتناعه
باليمين، ولا تحرم عليه في الموضعين.
12- أنه ينوي في أصل الطلاق وعدمه
إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائناً وإن لم ينو طالقاً فهو مُولٍ، وإن نوى
الكذب فليس بشيء، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وحجة هذا القول: احتمال
اللفظ لما ذكره، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ؛ لاقتضاء التحريم
للبينونة وهي صغرى وكبرى، والصغرى هي المتحققة فاعتبرت دون الكبرى، وعنه
رواية إن نوى الكذب دُيِّنَ ولم يقبل في الحكم، بل يكون مولياً ولا يكون
مظاهراً عنده نواه أ لم ينوه، ولو صرح به فقال" أعني الظهار" لم يكن
مظاهراً
13- أنه يمين يكفره ما يكفره اليمين على كل حال، صح ذلك عن أبي
بكر، وعمر، وعائشة، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وعبدالله بن عمر
رضي الله عنهم ، وعكرمة، وعطاء، ومكحول، وقتادة، والحسن، والشعبي، وسعيد
بن المسيب، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، ونافع،
والأوزاعي، وأبى ثور، وخلق سواهم. وحجة هذا القول: ظاهر القرآن؛ فإن الله
ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال؛ فلا بد أن يتناوله يقيناً؛ فلا
يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلَّة
التي قصد ذكرها لأجله.
14- أنه يمين مغلظة تتعين فيها عتق رقبة صح ذلك
أيضاً عن ابن عباس، وأبي بكر، وعمر، وابن مسعود رضي الله عنهم، وجماعة من
التابعين. وحجة هذا القول: أنه لما كان يميناً مغلظة غلظت كفارتها بتحم
العتق، ووجه تغليظها تضمُّنها تحريم ما أحل الله وليس إلى العبد، وقول
المنكر والزور إن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره، معتدٍ في إقسامه؛ فغلظت
كفارته بتحتم العتق كما غلظت في كفارة الظهار به أو بصيام شهرين أو بإطعام
ستين مسكيناً.
15- أنه طلاق، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو مانواه
من الواحدة وما فوقها، وإن كانت مدخولاً بها فهو ثلاث، وإن نوى أقل منها.
وهو إحدى الروايتين عن مالك. وحجة هذا القول: أن اللفظ لـمَّا اقتضى
التحريم وجب أن يترتب عليه حكمه، وغير المدخول بها تحرم بواحدة، والمدخول
بها لا تحرم إلا بالثلاث.
إلى أن قال – رحمه الله –
وفي المسألة
مذهب آخر وراء هذا كله، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهراً ولو نوى به
الطلاق، وإن حلف به كان يميناً مكفرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية،
وعليه يدلُّ النص والقياس؛ فإذا أوقعه كان قد أتى منكراً من القول وزوراً،
وكان أول بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإذا حلف به كان يميناً
من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة، وهذا محض القياس
والفقه
للفائدة والتنوير والله الموفق
تحياتي لكم