أبو حميد عبدالملك بن ظافر الماجوني الكوسوفي واعْلَم - رحمني الله وإيَّاك -: أنَّ الدنيا ترتَحِل مُدبرة، وأنَّ الآخرةَ تَقترب مُقبِلَة، ولكلِّ واحدٍ منهما أبناء، وهل تدرون مَن هم أبناء الآخرة؟
هم عبادٌ من الربَّانيين الصالحين، الذين تَنزل الرحمة عند ذِكرهم، وتحيا القلوبُ بسماع أخبارهم، وتحَصل السعادة باقْتِفاء آثارهم.
هم الذين اتَّخذوا أقوى سبب التقوى، وكانوا دائمًا ممن خافوا الله، وفي السرِّ مَن بَكَى.
هم خيار عباد الله، الذين
إذا رُؤُوا، ذُكِر الله تعالى، البريئة أيديهم، الطاهرة قلوبُهم،
المتحابون لجلال الله، والمتواضعون لعظَمته وسلطانه.
هم أولياء الله حقًّا، لا خوف عليهم في الدنيا، ولا هم يَحزنون في العُقبى.
يُسبغون الوضوء في المكاره، ويَهجرون المضاجع في الشتاء البارد؛ إحياءً لذِكر الموت، وإماتةً لذِكر الحياة.
بهم أقامَ الله الكتاب والسُّنة، وبهما هم قامَوا، بهم نطَق الكتاب والسُّنة، وبهما هم نطَقوا.
هم الذين اتَّخذوا أرض الدنيا بِساطًا، والتراب فراشًا، والماء طِيبًا.
هم والله كمَن رأى أهل
الجنة في الجنَّة مُخلَّدين، وأهل النار في النار مُعذَّبين، شرورهم
مأمونة، قلوبهم مَحزونة، أنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبَروا أيامًا
قليلة لعُقبى راحةٍ طويلة.
أمَّا في الليل، فصافُّون أقدامَهم، تَجري دموعهم على خدودهم، يَجْأَرُون إلى ربِّهم: ربَّنا، ربَّنا، يطلبون فَكاك رِقابهم.
وأمَّا في النهار،
فعلماء حلماء، بَرَرة أتْقياء، يَنظر الناظر إليهم، فيقول: مرضى! وما
بالقوم - والله - من مرضٍ، ولكن أصْمَتتْهم خشيةُ الله من غير بُكمٍ، ولا
عِيٍّ؛ لأنهم إذا تذكَّروا عظمة الله، طاشَت لذلك عقولُهم، وانكسَرت
قلوبهم، وانعطَفت بذلك ألْسِنتهم، حتى إذا استفاقُوا من ذلك، سارعوا إلى
الله - عز وجل - بالأعمال الزاكِيَة.
يا مَن يريد رُفقة
المتَّقين، يا مَن هو حريص على معرفة أحوال أهل اليقين، والتحلِّي بصفات
أبناء الآخرة والدين، أمَا تعلم أنَّ أولئك تُنزَّل بهم البركات، وتُدْفَع
بهم الهَلكات، وعند الموت تأتيهم الملائكة بالبِشارات، تبكي على فِقدانهم
الأرض والسموات، وتَفتخر بحِفظ تلك الذوات.
أمَا عَلِمتَ أنَّ هؤلاء
تتلقَّاهم الملائكة يوم البعث بالتهاني والتحيَّات، وتَنطفئ النار لنورهم
إذا جازَوها إلى الجنات، وتَستبشر بقدومهم الحورُ في الغُرفات، وفوق ذلك
كله نظرُهم إلى ربِّ الأرض والسموات.
فانظُر ما فاتَك يا مأْسور الزخارف والشهوات، وانْتَبه لنفسك قبل أن تَخسر كلَّ الخسارات، وتقول: أرجِعوني؛ لعلِّي أعمل صالحًا، فيُقال لك: هَيْهات، هَيْهات!
فيا أيها المسلمون
والمسلمات، إلى متى اللهو والغَفلات، وإيثار الأهواء والشهوات، والتخلُّف
عن أسباب النجاة، والاشتغال بما لا يُجدي إلاَّ الندم والخسارات، والإعراض
عمَّا أنتم مخلوقون له من الطاعات.
يا مَن تُحصَى عليه
اللحظات والخَطرات، يا مَن تُكتب عليه اللفظات والخطوات، يا مَن لا يُغادر
كتاب عمله حتى الذرَّات، يا مَن يَنظر في وجهه ملكُ الموت كلَّ يومٍ عدَّة
مرَّات، يا مَن الكرام الكاتبون مشاهدون له في النوم واليَقظات، يا مَن
ربُّ الخلائق يَنظر إليك في الخَلوات والجَلوات.
أمَا آنَ لك أن تُفيق من السَّكرات، أمَا للوعظ فيك تأثيرٌ، أم أنَّك من الأموات؟
أمَا والله، لئن لَم تَستدرك ما مضى وفاتَ، وتُعِدَّ عملاً صالحًا للنجاة، لتَندَمَنَّ ندامة لا تُشبه الندامات.
فاتَّقوا الله يا أيها
المسلمون والمسلمات، وهبُّوا من هذه الغَفلات، واستَدركوا بقيَّة الأيام،
واغتَنموا التوبة الصادقة وصالح الحسنات.
فقد نصَحتكم، أين أبناء الآخرة؟ أين أهلها؟ كِدتُ لا أراهم إلاَّ في كتابٍ، أو تحت ترابٍ
[1].
[1]المصادر: "الرقة والبكاء"؛ للمقدسي، و"الرقة والبكاء"؛ لابن أبي الدنيا،
و"كتاب الزهد"؛ للإمام أحمد بن حنبل، و"الحكمة البالغة في المواعظ
والخُطب"؛ لمجموعة من الباحثين.