الدين.. ما هو؟؟
الدين حالة
قلبية.. شعور.. إحساس باطني بالغيب.. و إدراك مبهم ، لكن مع إبهامه شديد
الوضوح بأن هناك قوة خفية حكيمة مهيمنة عليا تدبر كل شيء.
إحساس
تام قاهر بأن هناك ذاتا عليا.. وأن المملكة لها ملك.. و أنه لا مهرب لظالم
و لا إفلات لمجرم.. و أنك حر مسئول لم تولد عبثا ولا تحيا سدى وأن موتك
ليس نهايتك.. و إنم اسيعبر بك إلى حيث لا تعلم.. إلى غيب من حيث جئت من
غيب.. و الوجود مستمر.
وهذا
الإحساس يورث الرهبة والتقوى والورع ، ويدفع إلى مراجعة النفس ويحفز صاحبه
لأن يبدع من حياته شيئا ذا قيمة و يصوغ من نفسه وجودا أرقى وأرقى كل لحظة
متحسبا لليوم الذي يلاقي فيه ذلك الملك العظيم.. مالك الملك.
هذه
الأزمة الوجودية المتجددة والمعاناة الخلاقة المبدعة والشعور المتصل
بالحضور أبدا منذ قبل الميلاد إلى ما بعد الموت.. و الإحساس بالمسئولية
والشعور بالحكمة والجمال والنظام والجدية في كل شيء.. هو حقيقة الدين.
إنما تأتي العبادات والطاعات بعد ذلك شواهد على هذه الحالة القلبية..
وينزل القرآن للتعريف بهذا الملك العظيم .ملك الملوك.. و بأسمائه الحسنى وصفاته وأفعاله وآياته ووحدانيته.
و يأتي محمد عليه الصلاة والسلام ليعطي المثال والقدوة.
و ذلك لتوثيق الأمر وتمام الكلمة .
و لكن يظل الإحساس بالغيب هو روح العبادة وجوهر الأحكام والشرائع، وبدونه لا تعني الصلاة ولا تعني الزكاة شيئا.
و
لقد أعطى محمد عليه الصلاة والسلام القدوة والمثال للمسلم الكامل، كما
أعطى المثال للحكم الإسلامي والمجتمع الإسلامي.. لكن محمدا عليه الصلاة
والسلام وصحبه كانوا مسلمين في مجتمع قريش الكافر.. فبيئة الكفر، و مناخ
الكفر لم يمنع أيا منهم من أن يكون مسلما تام الإسلام .
وعلى
المؤمن أن يدعو إلى الإيمان ، و لكن لا يضره ألا يستمع أحد، ولا يضره أن
يكفر من حوله، فهو يستطيع أن يكون مؤمناً في أي نظام و في أي بيئة.لأن
الإيمان حالة قلبية، والدين
شعور وليس مظاهرة، و المبصر يستطيع أن يباشر الإبصار ولو كان كل الموجودين
عميانا ، فالإبصار ملكة لا تتأثر بعمى الموجودين ،كما أن الإحساس بالغيب
ملكة لا تتأثر بغفلة الغافلين ولو كثروا بل سوف تكون كثرتهم زيادة في
ميزانها يوم الحساب .
إن العمدة في مسألة الدين والتدين هي الحالة القلبية.
ماذا يشغل القلب.. و ماذا يجول بالخاطر ؟
و ما الحب الغالب على المشاعر ؟
و لأي شيء الأفضلية القصوى ؟
و ماذا يختار القلب في اللحظة الحاسمة؟
و إلى أي كفة يميل الهوى ؟
تلك هي المؤشرات التي سوف تدل على الدين منعدمه.. و هي أكثر دلالة من الصلاة الشكلية ، و لهذا قال القرآن.. و لذكر الله أكبر.. أي أن الذكر أكبر من الصلاة.. برغم أهمية الصلاة.
و لذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام لصحابته عن أبي بكر.. إنه لا يفضلكم بصوم أو بصلاة و لكن بشيء وقر في قلبه.
و بهذا الشيء الذي وقر في قلب كل منا سوف نتفاضل يوم القيامة بأكثر مما نتفاضل بصلاة أو صيام.
إنما تكون الصلاة صلاة بسبب هذا الشيء الذي في القلب.
و إنما تكتسب الصلاة أهميتها القصوى في قدرتها على تصفية القلب وجمع الهمة وتحشيد الفكر و تركيز المشاعر.
وكثرة الصلاة تفتح هذه العين الداخلية و توسع هذا النهر الباطني، و هي الجمعية الوجودية مع الله التي تعبر عن الدين بأكثر مما يعبر أي فعل .
و هي رسم الإسلام الذي يرسمه الجسم على الأرض،سجودا، و ركوعا وخشوعا وابتهالا، وفناء.. يقول رب العالمين لنبيه :
اسجد واقترب.
و بسجود القلب يتجسد المعنى الباطني العميق للدين، وتنعقد الصلة بأوثق ما تكون بين العبد والرب.
و بالحس الديني،
يشهد القلب الفعل الإلهي في كل شيء.. في المطر والجفاف، في الهزيمة و
النصر، في الصحة و المرض،في الفقر و الغنى، في الفرج و الضيق.. وعلى اتساع
التاريخ يرى الله في تقلب الأحداث و تداول المقادير.
و على اتساع الكون يرى الله في النظام و التناسق والجمال ، كما يراه في الكوارث التي تنفجر فيها النجوم و تتلاشى في الفضاء البعيد.
و
في خصوصية النفس يراه فيما يتعاقب على النفس من بسط و قبض ، وأمل وحلم، و
فيما يلقى في القلب من خواطر و واردات.. حتى لتكاد تتحول حياة العابد إلى
حواره امس بينه و بين ربه طول الوقت .
حوار بدون كلمات.
لأن كل حدث يجري حوله هو كلمة إلهية و عبارة ربانية ، و كل خبر مشيئة ، وكل جديد هو سابقة في علم الله القديم.
و هذا
الفهم للمشيئة لا يرى فيه المسلم تعطيلا لحريته، بل يرى فيه امتدادا لهذه
الحرية.. فقد أصبح يختار بربه، و يريد بربه، و يخطط بربه، و ينفذ بربه..
فالله هو الوكيل في كل أعماله.
بل
هو يمشي به ، و يتنفس به ، و يسمع به، و يبصر به ، و يحيا به.. و تلك قوة
هائلة ومدد لا ينفد للعابد العارف ، كادت أن تكون يده يد الله و بصره
بصره، و سمعه سمعه ، و إرادته إرادته .
إن نهرالوجود الباطني داخله قد اتسع للإطلاق.. و في ذلك يقول الله في حديثه القدسي
:
لم تسعني سماواتي و لا أرضي و وسعني قلب عبدي المؤمن.
[ قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء : لا أصل له ]
هذا التصعيد الوجودي، و العروج النفسي المستمر هو المعنى الحقيقي للدين.. و تلك هي الهجرة إلى الله كدحا.
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}
و لا نجد غير الكدح كلمة تعبر عن هذه المعاناة الوجودية الخلاقة ، و الجهاد النفسي صعودا إلى الله.
هذا هو الدين.. و هو أكبر بكثير من أن يكون حرفة أو وظيفة أو بطاقة أو مؤسسة أو زيا رسميا.
د.مصطفى محمود