بسم الله الرحمن الرحيم
أطفالنا والفصحى ... المأساة والحل ..
الحمد لله القائل : { خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ } ( الرحمن : 3-4 ) .
وتعليم الإنسان البيان من آيات الله الباهرة . قال القرطبي : « البيان الكلام والفهم ، وهو ما فضل به الإنسان على سائر الحيوان » .
وقال السدي : « علَّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به » ، « وقيل علَّمه اللغات كلها » .
وقال
الشنقيطي : « التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير » .
ويقول سيد قطب : « إننا نرى الإنسان ينطق ويعبِّر ويبين ، ويتجاوب مع
الآخرين ، فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة ، وضخامة هذه الخارقة ،
فيردنا القرآن إليها ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى » .
كيف يكون البيان ؟ وكيف يتعلم الطفل اللغة التي يعرب بها عما في ضميره ؟
جهاز اكتشاف قواعد اللغة :
تشير
الدراسات العلمية المبنية على الملاحظة والتحليل أن الله زود الطفل من
جملة ما زوده به بالقدرة على اكتشاف قواعد اللغة التي يتعرض لها باستمرار
، ويسمي العلماء جزء الدماغ المسؤول عن هذه العملية : جهاز اكتشاف اللغة (
LAD ) Language Acquidition Device ،
فيقوم هذا الجهاز بهداية
الله له باكتشاف قواعد اللغة من جملة المفردات والتراكيب التي تعرض عليه ،
وقد يخطئ القاعدة في البداية لقلة الأمثلة والعينات ، ولكنه ما يلبث أن
يراجع نفسه ويعدل القاعدة حتى يتقن اللغة تماماً فيكاد ألاَّ يخطئ فيها ؛
وهذا ملاحظ في الأطفال ؛
فتجد الطفل مثلاً وقد طرق سمعه كلمات
الجمع مثل : نائمين ، قاعدين ، فيقول : رجّالين جمع رجّال ( رجل بالعامية
) وكَلْبين جمع كلب . وأمثلة هذا معلومة لدى الأبوين ، ويتخذون منها مادة
للتفكه والتندر . ومع زيادة الأمثلة ، وتكرار السماع ، يصحح الطفل هذه
الأخطاء من تلقاء نفسه حتى يصل إلى رتبة الإتقان .
والطفل حين يتقن اللغة لا يدرك قواعدها ؛ بل هذا الأمر صحيح في حق الكبير أيضاً . ولنأخذ على ذلك مثالاً من العامية الشامية :
يقول
أهل الشام : خزانِة ، وبوابِة ، ورمانِة . بكسر ما قبل التاء المربوطة ؛
ولكنهم يقولون : تفاحَة ومطاطَة بالفتح . ولا يمكن أن يخلطوا بينهما
فيقولون تفاحِة مثلاً ، بل إذا قال الرجل ذلك علم أنه يحاول تقليد اللهجة
الشامية وينفضح أمره !
لا شك أن وراء هذه الطريقة في النطق قاعدة
لغوية ؛ فما هي ؟ ربما لم يخطر لكثير من الناس أن يبحثوا عن القاعدة ،
ولكنهم غير محتاجين لذلك ؛ فإنهم ينطقون بها صحيحة حسب لهجتهم بالسليقة
كما يقول العامية أو لأن جهاز اكتشاف اللغة ( LAD ) قد أراحهم من ذلك !
كما يقول العلماء .
وكل موهبة ذهنية أو جسدية وهبها الله للإنسان
جعل لها دورة حياة ، تنشأ وتقوى ، ثم تبلغ ذروتها وأوجها ، ثم تضمحل وتموت
؛ فما هي دورة حياة جهاز اكتشاف اللغة ( LAD ) ؟
يقول العلماء
إنها تبدأ مع خلق الإنسان ، وتبلغ ذروتها في سني حياته الأولى ، وتبدأ
بالضمور والاضمحلال بعد سن السادسة ، لتموت قريباً من سن البلوغ ! وقد
أيدوا هذه النظرية بالدراسات العلمية ، والكشوفات الطبية والاستقراء
الدقيق . وهذا يعني أن السن المثلى التي يكتشف فيها الإنسان قواعد اللغة
التي يسمعها حوله عندما يكون طفلاً دون السادسة ، وأنه بعد ذلك إن لم يكن
قد أتقن قواعد اللغة يحتاج إلى من يلقنه ويعلمه إياها ؛ إذ لا يكون قادراً
على اكتشافها بنفسه ، كما أنه في الغالب لن يستطيع أن يصل إلى درجة
الإتقان التي يبلغها من اكتشف قواعد اللغة في السن التي يكون مهيأ لها (
وهذا يدل على الموهبة الخارقة لجهاز اكتشاف قواعد اللغة الرباني ) .
والجدير
بالذكر أن هذا الجهاز لا تنحصر قدرته على اكتشاف لغة واحدة ، بل يمكنه أن
يكتشف قواعد عدة لغات ، وبنفس الدرجة من الإتقان ، إذا تيسر له القدر
الكافي من السماع والممارسة .
وقد لاحظنا هذا الأمر بجلاء في
الطفل الذي ينشأ لأب عربي وأم إنجليزية مثلاً ، وقد التزم الأب الحديث
باللغة العربية في بيته فينشأ الطفل متقناً للعربية/ العامية لغة أبيه ،
والإنجليزية لغة أمه ، بطلاقة تامة .
المأساة : وهنا تظهر مأساة
الطفل العربي المعاصر ، إنه في سني حياته الأولى يتعرض للعامية ، فيتعرف
على مفرداتها ، ويتقن تراكيبها وقواعدها ، حتى إذا ذهب إلى المدرسة وجد أن
عليه أن يطلب المعرفة بغير اللغة التي يتقنها . واللغات العامية والتي
اصطلح على تسميتها لهجات مختلفة إلى حد كبير عن اللغة الفصحى في المفردات
والتراكيب والقواعد .
أما الاختلاف في الألفاظ والمفردات فأشهر
من أن يمثل له ، وأما الاختلاف في القواعد والتراكيب فإن الفارق أكبر
بكثير مما يظنه الإنسان للوهلة الأولى ، وهذه
بعض الأمثلة : في
العامية يستخدم الطفل ( اللي ) كاسم موصول للمفرد والمثنى والجمع مذكراً
كان أو مؤنثاً ، بينما تقابله في الفصحى ثمانية صيغ : الذي ، التي ،
اللذان ، اللتان ، اللذَين ، اللتَين ، الذين واللاتي أو اللواتي .
وقد
تعلم أن يقول : ( كتابَك ، قلمَك ، رأسَك ) بفتح الحرف الأخير قبل الضمير
للدلالة على المذكر ، وكسره ( كتابِك ، قلمِك ، رأسِك ) للدلالة على
المؤنث ، ثم نعلمه في الفصحى أن ذلك الحرف لا دلالة له على التذكير
والتأنيث ؛ وإنما يظهر ذلك في حركة الضمير المتصل .
فعندما يُطلب
من طفل المرحلة الابتدائية أن يقرأ جملة بسيطة نحو : « جلست الفتاة قرب
النافذة » تجده يتهجؤها تهجئة ؛ لأن المفردات ليست من مخزونه ، وإنما يألف
الحروف فقط فيقرؤها حرفاً حرفاً ؛ فإذا مللنا من بطئه في القراءة نهرناه
وقلنا له : « ما لك يا غبي ، إنما نعني : قعدت البنت جنب الشباك » ، هكذا
نترجمها له إلى العامية !
والحقيقة أن الطفل مسكين ، ومعرفته
بالحروف الأبجدية ليست كافية للانطلاق في القراءة . إن الكبير حين يقرأ لا
يعتمد على تهجئة الكلمة ، وإنما يستعين بمخزونه من الكلمات والتراكيب ،
فيقرأ بسرعة . أعط رجلاً كبيراً نصاً فارسياً أو باكستانياً مكتوباً
بالحروف العربية ، فماذا يصنع ؟ إنه يهجئها حرفاً حرفاً كالصغير تماماً .
ونتج عن هذه المأساة أمران :
1-
عزوف الطفل عن القراءة ؛ فإنها تكلفه مجهوداً شاقاً ، ولا يفهم كل ما يقرأ
، فلا يستمتع بها ، والنتيجة ألا يُقبِل على القراءة إلا مضطراً كاستذكار
لامتحان أو نحوه ، ويصبح هناك نوع من العداء بين الطفل ثم الشاب والكتاب .
2 - صعوبة التحصيل المعرفي والعلمي ؛ لأن الطفل غير متمكن من أداته ، وهي اللغة الفصحى .
ولتعويض
هذا النقص قام التربويون وواضعو المناهج في الدول العربية بحشد عدد كبير
من حصص قواعد اللغة العربية وما يتعلق بها في جميع المراحل الدراسية ،
ولكن النتيجة أن هذه الحصص جميعاً لم تصل بخريج المدرسة الثانوية إلى
مرتبة الإتقان .
وقد عقد بعض المختصين مقارنة مفيدة بين عدد حصص
اللغة العربية وما يتعلق بها في بعض الدول العربية ، من الصف الأول
المتوسط وحتى الثالث الثانوي ، وبين عدد حصص اللغة الإنجليزية ( ليس هناك
فصيح وعامي في الإنجليزية ) في بريطانيا في الفترة ذاتها ؛ فوجد أن عددها
في الدول العربية يتراوح بين 1050 و1250 حصة ؛ بينما لا يزيد عددها عن 580
حصة في بريطانيا ؛ وبإجراء حسابات مباشرة يتبين أن الفارق يتمثل بما يعادل
ثلاث ساعات أسبوعياً ، على مدى ست سنوات . هذه الساعات الثلاث يقضيها
الطفل العربي في تعلم قواعد لغته والتعرف على مبادئها ؛ بينما تتاح للطفل
الإنجليزي الفرصة لاستثمارها في دراسة موضوعات أخرى .
وبالإضافة
إلى الفارق البيِّن في عدد الحصص هناك فارق جوهري في طبيعة المادة المعطاة
؛ فبينما يقضي الطفل العربي معظم الحصص في تعلم القواعد والنحو والإعراب
فإن الطفل الإنجليزي يقضيها في تحليل النصوص ، واستخلاص الأفكار الأساسية
وأساليب التعبير وغيرها .
فلا غرابة إذن أن تكون فرص الطفل
الإنجليزي للإبداع أكبر من فرص قرينه العربي ، وأن نجد في العرب عموماً
عزوفاً عن القراءة ؛ بينما الأوروبيون والأمريكان يقرؤون في كل مكان (
الحافلة ، القطار ، الطائرة ) ، وتجارة الروايات لديهم مزدهرة .
الحل :
الحل يكمن في أن يتقن أطفالنا الفصحى قبل دخول المدرسة بالإضافة إلى
العامية ؛ كيلا يكون موضع استغراب في المجتمع ولكن كيف يتم ذلك وقد تأصلت
العامية في المجتمعات العربية ؟ الجواب أنه لا بد أن نعرِّض الطفل في سني
عمره الأولى لساعات طويلة من ممارسة الفصحى سماعاً وتحدثاً . والوضع
الأمثل في ذلك أن يلتزم أحد الأبوين ولعل الأب هو الأنسب الحديث مع الطفل
بالفصحى منذ ولادته ، وستُدهش حين تسمع الطفل يحدث والده بالفصحى منذ أن
ينطق ! وإذا بدئ مع الطفل في سن متأخرة نسبياً بعد الرابعة مثلاً فقد يجد
الطفل بعض الصعوبة في البداية ، ولكن بالمواظبة والتوجيه والتصحيح من جانب
الوالد ، سرعان ما يألف الطفل ذلك . فإذا قال الطفل : ( يلاَّ نروح ) قال
له أبوه : ( هيَّا نذهب ) وهكذا . وقد جربت هذه الطريقة حتى مع أطفال في
سن الخامسة فكانت النتيجة مدهشة .
ولكن في كثير من بيوت العرب
اليوم لا يحسن أي من الأبوين الفصحى . وهنا يأتي الحل البديل : روضات
الفصحى ، وذلك بأن ينشئ الفضلاء الغيورون ، والتربويون الصادقون ، روضات
تتلقف الطفل من سن الثالثة ، ويكون الحديث داخل أسوار الروضة بالفصحى
تماماً ، ويختار المدرسات المؤهلات لذلك ، ويتم تدريبهن تدريباً جيداً .
وهذا الحل مجرب أيضاً ، وقد أثبت نجاحاً باهراً [2] . بحث ذو مغزى :
مدرِّسة
أمريكية تقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها . وقد لاحظت أن
الأطفال العرب بالذات يفرُّون من القراءة بشكل ملحوظ مقارنة بأقرانهم من
الأعراق الأخرى ، وقد لمست نفس الملاحظة عند زملائها من المدرسين الآخرين
. ولما أعياها البحث عن سبب ذلك توجهت بالسؤال الآتي من خلال شبكة
الإنترنت :
Please help me to answer this question : why arabs do not like to read ?
وترجمته : لماذا لا يحب العرب القراءة ؟
وقد
قام أحد الفضلاء بإجابتها عن تساؤلها ؛ حيث شرح لها الفصام الذي يعيشه
الطفل العربي بين العامية والفصحى ، ثم أحالها على تجربة روضة الأزهار
العربية .
وقد اهتمت بالموضوع أيما اهتمام ، إلى الحد الذي عزمت
فيه أن تعد رسالة ماجستير بعنوان : « أثر تعليم الفصحى قبل السادسة عند
العرب على التحصيل الدراسي » .
وفعلاً قامت بزيارة الروضة في
دمشق ، ومكثت عدة أشهر ، تقابل الأطفال ، وتدرس أوضاعهم ، كما تتبعت جميع
الأطفال الذين تخرجوا من الروضة والتحقوا بالمدارس العامة ، ودرست أداءهم
وتحصيلهم ، وعقدت مقابلات مع أساتذتهم وأولياء أمورهم ، ثم توصلت إلى أن
معدل التحصيل الدراسي لهؤلاء الأطفال أفضل بكثير من معدل التحصيل الدراسي
لأقرانهم ، وفي جميع المواد الدراسية .
وأخيراً : فهناك مكسب
ثمين من وراء تعويد أطفالنا على الفصحى في سن مبكرة يفوق كل ما سبق ؛ وهو
تقريبهم إلى تذوق كتاب الله ، واستشعار حلاوته ، واستسهال حفظه ومراجعته .
_______________________
هذا المقال تلخيص لحديث الدكتور عبد الله الدنان ، والدكتور الدنان رائد فكرة تعليم الأطفال الفصحى قبل سن السادسة .
منقووووووووول
بالتوفيق للجميع