الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ــــ
الفاصلة في القرآن الكريم
الفصْل في اللغة هو
الحاجز بين الشيئين، والفاصلةُ اصطلاحا لها معان متعددة، ففي كل علم من
العلوم العربية تقريبا نجد الفاصلة، والفاصلة في القرآن هي أواخر الآيات
في كتاب الله، فالفاصلة هي الكلمة التي تختَم بها كل آية، والفواصل تتوافق
في حرف الرويّ أو في الوزن، مما يقتضيه المعنى وتستريح إليه النفوس،
ويعرفها بعض العلماء بأنها (حروفٌ متشاكلة في المقاطع توجبُ حسنَ إفهام
المعاني) وجاء هذا الاسم من قول الله تعالى في وصف القرآن: (كتابٌ
فصّلناه)، وقوله عز وجل: "آياتٍ مفصّلات" وقوله تعالى: "كتاب فصلت آياته"
وآيات
الفواصل متناسبة تماما مع المعاني، وقد كان بعض العرب يدركون بعض الفواصل
قبل سماعها، وكان منهم من يعرف الغلط إن قرئت أمامه غلطا ولو كانت أول مرة
يسمعها فيها بسبب ما يشعر به من اختلال المعنى عند الغلط. فقد سمع أعرابي
قول الله تعالى في سورة النور: " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)"وأكملها القارئ بقول: فاعلموا أن الله غفور رحيم
بدلا من عزيز حكيم
فقال أعرابي سمع الآية بهذا الخطأ: هذا لا يكون.. لا يصدر هذا الكلام عن الله، فلا يذكَر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه
إن
الفاصلة القرآنية لم تأت لغرض لفظي فحسب وهو اتفاق رؤوس الآي بعضها مع
بعض، ولكنها تأتي لغرض معنوي دقيق يحتمه سياق الكلام وتقتضيه الحكمة،
ويجتمع معه جمال اللفظ وتناسق الفواصل، فهي تخدم اللفظ والمعنى معا بلا
إخلال بأي منهما، فإن وجدنا فيها ما نرى أنه مخالف لأصل الكلام أو محذوف
منه حرف أو زائد عليه شيء فإن ذلك لم يأت عبثا ولا مراعاة للفاصلة فحسب،
ولكن المقام يقتضي مجيئها بهذا الشكل، فترتاح النفس مع الإيقاع الملائم
والمعنى السليم بلا أي خلل مفتعل من أجل الفاصلة كما يفعل الشعراء من أجل
القافية.
*** أمثلة لفواصل ومعانيها الملائمة للسياق
قال الله تعالى في سورة السجدة: "أوَ لم يهدِ لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون26"
وقال في الآية التالية لها: "أوَ لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم، أفلا يبصرون27"
وقد
يسأل بعض عن سر ختم الآية الأولى بفعل السماع وختم الثانية بفعل الإبصار،
والرد في السياق، فإن الآية الأولى تتحدث عن الأمم السابقة التي أهلكت،
وهذه الأمم طريقنا لمعرفة ما أصابها هو السماع، فنحن نسمع أخبار ما حل بها
في التاريخ الماضي الذي لا نراه، وأما الآية التالية فهي تتحدث عن ظاهرة
طبيعية تحدث أمامنا حين يصيب المطر الأرض اليباب فتحيا ويستفيد منها الناس
والأنعام
*** مثال ثان من سورة الأنعام: "وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون97"
الاهتداء بالنجوم مما علمته العرب، ويمكن أن تتعلمه بيسر كل الأمم، فالعلم بها طريق للاهتداء.
"وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون98"
وهنا حديث عن النفس وهي من الدقائق التي تعلو على العلم المجرد وتحتاج إلى فقه بها وهو أخص من العلم
"
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ
حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا
وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ
إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99
وهذا بيان لبعض
دلائل قدرة الله في الخلق وهي ظاهرة للإنسان لكن التأثر بها والاعتبار
بمعانيها واليقين بها هو مما تختص به النفوس المؤمنة
في الفاصلة
القرآنية يجد أنها مناسبة لفظية مرغوبة تريح القارئ وتزيد من روعة التلاوة
وتمده بألوان من التنغيم المؤثر الأخاذ الذي يملك القلوب ويسبى الأرواح
ومن ثم فقد كثر ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد و اللين غير أن
مزيد من التأمل في وضع الفاصلة نرى أنها مع هذا الجمال قد أفادت معنى لم
يكن لتؤديه غيرها وقد تأملت كثيرا من الفواصل
هذه بعض من النماذج
التي اعتبرها العلماء مراعاة للفاصلة وخروجا عن النظم لأجلها... لنلق
عليها نظرة تدبر فنرى مدى من الإعجاز لا نصل إلى نهايته. والمثال المطروح
في هذه المشاركة
تأخير الاستعانة عن العبادة في قوله إياك نعبد
وإياك نستعين.. قالوا تأخرت الاستعانة عن العيادة مع أنها متقدمة عليها
لأجل الفاصلة غير أننا لو تدبرنا لوجدنا أنها أفادت معان أخرى بجانب
الجمال الذي أضفته الفاصلة بهذا الشكل:
1. العبادة أمانة كما قال تعالى "إنا عرضا الأمانة على السماوات والأرض" فقدمها اهتماما بالآداء.
2. العبادة مطلوب الله من العباد والاستعانة مطلوب العباد من الله فقدم مطلوب الله على مطلوب العباد.
3. العبادة أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية والمتأمل يجد أكثر من ذلك...