علي أسامة (لشهب أسامة) المدير العام
الجنـسية : البلد : الجزائر الجنـــس : المتصفح : الهواية : عدد المساهمات : 26932 التقييم : 0 تاريخ التسجيل : 24/10/2008 العمر : 31 الموقع : https://readwithus.yoo7.com/ المزاج : nice توقيع المنتدى + دعاء :
| موضوع: أيهما أكثر أولوية: الأمن أم الحرية؟ السبت 11 فبراير - 22:31 | |
| الحرية قيمة خالدة كخلود الروح التي هي نعمةٌ من الخالق، وليست هبةً من أي أحد؛ ولهذا فقد صانت الشرائع والقوانين حق الحرية مثله مثل حق الحياة تماماً.
ولقد أثار أحد الإخوة الكتاب في صحيفة (الوطن)- وبعض المثقفين الآخرين- تساؤلاً في ذهني: أيهما أكثر أولوية: الأمن أم الحرية؟ كان ذلك في سياق كلامه عن العراقيين تحديداً والحرية الموعودة والأمن المفقود, وخلُص إلى نتيجة أن الأمن أهم من الحرية؛ والحقيقة تبدو كأنها معادلةٌ صعبةٌ، لا يمكن ترجيح طرفٍ فيها على حساب الطرف الآخر, فقد يقول بعضهم: ما قيمة الحرية لإنسان غير آمنٍ على حياته؟ بينما يقول بعضهم الآخر: ما معنى حياة الإنسان إذا سُلبت منه حريته, وأصبحت أفكاره وتصرفاته خاضعة لإرادة غيره؟ لكن إذا حاكمنا بين الأمرين برويّة, نجد أن غير الآمن "قد" يستطيع الهرب إلى مكان آمن مثلاً, أما الذي لا يملك حريته فلا يمكنه فعل شيء؛ ويمكن للصورة أن تتوضح أكثر إذا تخيلنا الحقوق كلها في غياب الحرية التام، فنرى أنه لا وجود للحقوق أصلاً, فإلغاء حق الحرية يلغي كل الحقوق الأخرى, عدا أن حرية الإرادة شرط من شروط التكليف وفي الحديث الشريف:«رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
تعود بي الذاكرة هنا إلى رواية من روايات (هيتشكوك) مخرج أفلام الرعب في منتصف القرن الماضي, قرأتها وأنا بعمر عشر سنوات, لذلك ما تزال تفاصيلها محفورةً في الذاكرة، وخاصةً تلك الصورة المرافقة للقصة, وهي لرجلٍ قبيح المنظر طويل شعر الرأس واللحية مسجونٍ في قفص. شكله لم يكن يمتّ إلى الإنسان بصلةٍ، بل هو أقرب إلى وحشٍ أليفٍ. تحكي القصة عن تعامله غير الإنساني مع زوجته التي تحملت منه أصناف العذاب وألوان الهوان, كان رجلاً سكيراً يقضي نهاره نائماً، ويسهر ليله في البارات, وعندما يستيقظ من سكره لا يفعل شيئاً إلا أن يزأر بزوجته غاضباً. كان من المستحيل عليها إرضاؤه, وكان لا بد من أن تصبر على ضربه لها وشتائمه وإهاناته, إلى أن فاض الكيل بها فعزمت على الكيد به والتخلص من هذا السجن الأبدي, واختارت طريقةً لا يمكن أن يكتشفها أحد, فصنعت قفصاً كبيراً يسعه, ودعته إليه ذات يومٍ بينما كان يترنح تحت وطأة الخمر, ولما دخل الوحش القفص أقفلت عليه الباب, ولم تستجب لزئيره حتى لو حوّله أحياناً إلى توسل. مع ذلك كانت تجلب له الطعام والشراب, وتحوّل الوحش الغاضب رويداً رويداً إلى حيوانٍ مستأنسٍ شبيه بالغوريللا المروَّضة, وهكذا تحررت المرأة من ظلم الرجل بسجنه في قفصٍ وضعته في الفناء الخلفي لحديقتها؛ ورغم أنها كانت لا تعاني من فقد الأمن, لكنها فضلت حريتها وكرامتها على البقاء مع زوج يهدر إنسانيتها.
ويفيض الواقع بقصصٍ أغرب وأعجب بكثير مما يدور في خيال القصصيين والسينمائيين, ومنذ أيامٍ قرأت خبر تلك المرأة التي نُفِّذ فيها حكم الإعدام لأنها قتلت زوجها, فما الذي دعاها إلى ذلك؟ هل كانت تعاني مثل نظيرتها في رواية فيلم (هتشكوك)؟ هل تراها فضلت أن تفقد حياتها بعد أن وجدتها دون معنى في ظل سجن الزوج لها؟ أو أنها كانت مخبولةً أو مجنونةً أو مجرمةً بطبيعتها أو بسبب نشأتها؟ على كل حال فقد علم بموتها الكثيرون, لكن ما أكثر النساء اللواتي يفقدن الحياة ومعانيها داخل سجون الأزواج والآباء والإخوة دون أن يعلم بهن أحد!
إذن أن تكون حياً يعني أن تكون حراً، والعكس صحيح, وتستمر الأسئلة المشروعة: هل يمكن مقايضة الحرية بالأمن؟ هل يمكننا أن نحلم في عالمنا العربي بحريات غير مشروطة بالأمن؟ وهل باتت هذه المعاني المكبِّلة لحرية الإنسان حكراً على الوطن العربي أو امتدت التقليعة إلى سواه من بلدان العالم؟ نعلم كيف قيدت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر حريات الناس في بلد الحرية والديموقراطية, كما أن التفجيرات الأخيرة في مدينة الرياض زادت من حرص رجال الأمن؛ ولأول مرة في تاريخ المملكة, على ما أظن, يقف رجل الأمن على باب مجمّعٍ تجاريٍّ كبيرٍ ويطلب من النساء فتح حقائب اليد, واستجابت له إحداهن بأريحيّةٍ تكاد تقول معها أن افتح قلبي فلن تجد سوى محبة هذا البلد وأهله!
لكن المحبة شيء والعشق شيء آخر؛ ولعشق الحرية نكهة خاصة, وعندما قال د. مصطفى السباعي رحمه الله: « زرِ السجن مرةً في العمر لتعرف معنى الحرية » فقد كان يعي ما يقول، لأنه مرّ بتجربة السجن؛ ومن لم يذق الطعم العلقم للسجن الكبير في العراق في ظل الحكم الغاشم لصدام, لا يحق له أن يقرر بدل العراقيين فيما إذا كان الوجود الأمريكي مهدداً لأمنهم أم لا؛ وقد سجلتْ أيامُ انفلات الأمن بعد سقوط تمثال صدام في ميدان الفردوس ببغداد لحظاتٍ نادرةً ومذهلةً, فقد أظهرت بوضوحٍ وشفافيّةٍ ماذا يعني أن يعيش الناس في كابوسٍ مرعبٍ ويستيقظوا منه فجأةً, فكم هو الوقت الذي يحتاجونه من أجل استعادة توازنهم؟ كيف لمن عاش في الظلام فترةً طويلةً أن لا تنبهر عيناه بالنور الفجائي فلا يفقد قدرته على الإبصار؟ ليس الاحتلال الأمريكي للعراق نوراً بالمعنى الحقيقي للكلمة لكنه على الأقل خروج من حالة الظلم والظلام والعدمية المطبِقة!
وبما أن الأمر مجرد رأي شخصي فهو ليس حكماً على العراقيين ولا على غيرهم, أفراداً كانوا أو مجتمعاتٍ, ومما علمتني إياه الحياة أن لا أحكم على شخص قبل أن أضع نفسي مكانه تماماً, وهذا ليس دائماً بالشيء السهل, فأن تضع نفسك مكان شخص يعني أن تتخيل كلّ ظروفه الاجتماعية الخارجية محيطةً بك, وهو أمر صعب، لكنه ليس سوى وضع الإطار حول الصورة, أما الأمر الأكثر صعوبة فهو أن تجعل خيالك ينطلق لأبعد مدى فترسم ذاتك في لوحةٍ مشابهةٍ لظروف ذلك الشخص الداخلية النفسية, وهو فنّ يحتاج إلى ورقٍ روحيٍّ من نوعٍ عالي الشفافية, غير قابلٍ للتمزق أو الانجراح في أثناء القيام بالتجربة, فمن منا يملك هذه القدرة؟!
كتب الرئيس البوسنوي السابق علي عزت بيجوفيتش في كتابه "هروبي إلى الحرية" الذي خطّه وهو في السجن بيوغوسلافية السابقة: «لو لم يكن الليل لكنا عاجزين عن رؤية السماء ذات النجوم، وهكذا يجردنا الضوء من بعض الرؤية، في حين أن العتمة والظلام يساعداننا على أن نرى شيئاً», لذلك فإن من عاش حياته متمتعاً بنور الحرية ولو في أقل الحدود, خاصة أن الأمور كلها نسبية, لا يمكنه الحكم على من لم يعرف ماهيتها, ولله درّ ذلك الشاعر الذي قال:
أخبرنا أستاذي يوماً عن شيء يدعى الحرية
فسألت الأستاذ بلطفٍ أن يتكلم بالعربية
ما الحرية؟!
هل هي مصطلح يوناني عن بعض الحقب الزمنية؟!
أم أشياء نستوردها أو مصنوعات وطنية؟!
فأجاب معلمنا حزناً وانساب الدمع بعفوية
قد أنسوكم كلَّ التاريخ وكلَّ القيم العُلْوِيَّة
أسفي أن تخرج أجيال لا تفهم معنى الحرية
لا تملك سيفاً أو قلماً، لا تحمل فكراً وهوية
هذه هي الحرية شعراً؛ أما في الفتوى فإن من أعجب الفتاوى وأجرئها تلك التي جاءت في حاشية الفقيه ابن عابدين رحمه الله، بأنه إذا اختلف مسلم وغير مسلمٍ في ادعائهما لطفل، حيث طلب المسلم ملكيته والآخر أبوته، فإنه يُحكم لصالح غير المسلم لأن تنشئة الولد على الحرية وإن كان غير مسلمٍ أفضل من تربيته على العبودية وهو مسلم؛ وقد يتفق المرء مع الفقيه في هذه الفتوى أو يختلف, لكنه لا يمكن أن ينكر أنها موقف مدني وحضاري غير مسبوق، فقد غلّب الفقيه إنسانية المرء من كرامة وحرية على المعتقد والدين, وتكفي هذه الفتوى لتكون شاهداً على عمق وأصالة مفهوم الحرية في تراثنا الإسلامي؛ أما في حقبة ما قبل الإسلام فقد ورد أن شداد طلب من ابنه عنترة - وكان عبداً لأبيه - أن يكرّ على الأعداء, فقال عنترة: العبد لا يحسن الكرّ, فقال شداد: كرّ وأنت حرّ!
فهل كان للناس الذين استعبدهم صدام رأيٌ في بقائه في سدة الحكم أم إرادةٌ في مجيء أمريكا؟ وكيف للعبد فاقد الرأي والإرادة أن يبني وطناً أو أن يحقق حلماً أو أن يكون حياً؟! | |
|