بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل أتاك نبأ الهجرة؟ لـ : عبد الرحمن الطوخي
الحمد لله مقدِّر الْمَقدور، ومصرِّف
الأيام والشُّهور، ومُجري الأعوام والدُّهور، أَحْمده تعالى وأشكُره،
وأتوب إليه وأستغفره، إليه تصير الأُمور، وهو العفوُّ الغفور، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تَنْفع صاحِبَها يوم يُبَعْثر ما في
القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبْدُ الله
ورسوله، النبِيُّ المُجتبَى، والحبيب المصطفى، والعبد الشَّكور، صلَّى
الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما امتدت البحور، وتعاقب العشيُّ والبكور،
والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم النُّشور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
إنَّ في دنيا الناس ذكرياتٍ لا يُملُّ
حديثها، ولا تُسأم سيرتُها، بل قد تَحْلو أو تعلو إذا أعيدت وتكرَّرَت،
كما يَحْلو مذاق الشَّهد وهو يُكرَّر، ومن الذِّكريات التي لا يُملُّ
حديثها ولا تُسأم سيرتُها: حياة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إمام
البشريَّة، وسيِّد ولد آدم، فهي من الذكريات الغوالي التي تتجدَّد آثارها
وعِظاتُها كلَّما سلك المرءُ سبيلَه إلى الاعتبار والادِّكار.
والعبد المؤمن إذا غشي معالِمَ سيرتِه -
صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو كعابدٍ يغشى في مصلاَّه، ومِن حُسْن حظِّ
المؤمن أنه ما قلَّب سيرة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا فأخطأ
دمعُ العين مَجْراه.
وفي أيام محمد - صلَّى الله عليه وسلم -
الجليلة النبيلة أيَّام خوالد، ما تزال تنطوي على الأيام، وتتألَّق في
غُرَّة الزَّمان، ولعلَّ مِن أصدعها وأروعها يومَ الْهِجرة الذي تَهبُّ
علينا نَسمات ذِكْراه في كلِّ عام من أعوام الزَّمَن، ومن شواهد عِظَم
حادث الهجرة أنه يزداد بَهاءً وسناءً كُلَّما تناوله العَرْض والبحث،
كالذَّهب الإبريز كلَّما عرضْتَه على النار لتُمحِّصه؛ ازداد إشراقًا
وصفاءً.
وهجرة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم
- كانت فاتِحَة الأمل، وبارقة النَّصر، وطريقة العودة له ولأصحابه إلى
مكَّة فاتحين ظافرين، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]؛ أيْ: إلى مكَّة.
إنَّنا هنا نَعْرِض لَمحات مِن هجرة
المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الوقت الذي يَشْهد فيه المسلمون
نكبات وويلات تعصر قلوبَهم، وتُمزِّق صدورهم، وأُمَّتهم وعقيدتهم وحرماتهم
ومقدَّساتهم؛ تستصرخ ولا مُجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل.
والهجرة النبوية تعطينا في هذا المَجال
قدوة وأُسْوة، ففيها تتجلَّى دروسٌ ودروس من التضحية والفداء والبذل، فهذا
رأس الأُمَّة وإمام الملة - صلوات الله وسلامه عليه - يتحمَّل العبء
الثقيل في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتاط المُجرمون مِن
أعدائه في مقاومته، والتطاول عليه بالسُّخرية والاستهزاء، ثم بالكَذِب
والافتراء، ثم بِحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسُّفَهاء، ثم
بالتآمُر الدَّنِيء ينتهي إلى الإجْماع على اغتياله بلا ارْعِواء؛ قال
تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
لَمَّا ضاقَتْ قريش بِمُحمَّد - صلى الله
عليه وسلَّم - وبِكَلِمة الحقِّ التي يدعو إليْها، ائْتَمرتْ به، وقرَّرت
أن تتخلَّص منه، فأطلَعَه الله على ما يَمكرون ويأتمِرون، وأوحى إليه
بالخروج، فخرج ومعه الصِّدِّيق، وأُسقِط في أيدي المشركين، فأعلنوا
الجائزة العُظمى لِمَن يأتي برسول الْهُدى - صلَّى الله عليه وسلَّم -
حيًّا أو ميِّتًا، وأمر رسولُ الله أصحابَه أن يتجهَّزوا ويخرجوا
بالذَّراري والأطفال، ويسيروا بِهم إلى المدينة.
خاف المشركون خروجَ رسول الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم - إليهم ولحوقه بِهم، فاشتدَّ عليهم أمْرُه، ولم يبق
بمكَّة من المسلمين إلاَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر
وعليٌّ - رضي الله عنهما - ومن اعتقلَه المشركون كُرهًا، فلمَّا كانت ليلة
همَّ المشركون بالفَتْك برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاءه جبريل
بالوحي من عند ربِّه - تبارك وتعالى - فأخبره بذلك، وأمره ألاَّ ينام في
مَضْجعه تلك الليلة، وكان أبو بكر يرجو أن يأذن الله لرسوله بالْهِجرة،
فيكون صاحِبَه ورفيقَه فيها، ويتعجَّل ذلك من النبيِّ - صلَّى الله عليه
وسلَّم - ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول له: ((لا تَعْجل؛
لعلَّ الله يَجْعل لك صاحبًا))، فقام بإعداد الرَّواحل، وقام يَعْلفها من
ورق الثَّمر؛ استعدادًا للهجرة.
وكان من عادة الْمُصطفى - صلَّى الله
عليه وسلَّم - أن يأتي بيت أبي بكر كلَّ يوم مرَّتيْن بُكْرة وعشيًّا،
قالت عائشة - رضي الله عنها -: "فبَيْنما نَحن يومًا جلوسٌ فِي بَيْتِ
أبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَة، قال قائِلٌ لأبِي بَكْرٍ: هَذا رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - متقنِّعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها
أبدًا، فقال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأُمِّي، ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجلس على سرير أبي بكر، وقال: ((أَخْرِج
مَن عندك يا أبا بكر))، قال: إنَّما هم أهْلُك، بأبي أنت وأُمِّي، يا رسول
الله، قال: ((فإن الله قد أذن لي بالهجرة))، قال أبو بكر وهو يبكي من
الفرح: الصُّحبة يا رسول الله؟ قال: ((الصُّحبة يا أبا بكر))، قالت عائشة:
"والله ما شعَرْت قطُّ قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت
أَبِي يبكي يومئذٍ من الفرح"؛ أخرجه البخاري.
يا لله! هل يبكي فرحًا بِمَنصب؟! هل يبكي فرحًا بمال؟! بِجاه؟! بوظيفة؟!
لا، والله الذي لا إله إلاَّ هو، إنَّه
ليَعْلم أنَّ السُّيوف تنتظره، وأنَّ القلوب الحاقدة تتلهَّف للقبض عليه،
وأنَّ الجوائز العظيمة تُعْلَن للقبض عليه وعلى صاحبه، لكنْ أنَّى لَهم
ذلك وَهو وصاحبُه في معيَّة الله؟!
ويَنطلق رسولُ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - مع أَبِي بكر، فخرَجَا من خوخة في داره ليلاً، ثُم مضى رسولُ
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر إلى غار ثَوْر فدخَلاه، وظلَّ
فيه ثلاثة أيام، وجَدَّت قريشٌ في طلَبِهما، وأخذوا معهم القافة، حتَّى
انتهوا إلى باب الغار، فوقفوا عليه، بعيدًا عن أعْيُن المشركين، واستنفر
أبو بكر جَميع أفراد أُسْرته لِخِدمة الرِّسالة، وجهَّز جَميع إمكاناته
لِخِدمة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم مَضى مع رسول الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم - تاركًا الأهل، والعشيرة والأولاد، والخلاَّن والأصحاب؛
يريد وجه الله والدار الآخرة.
ويُلقِي رسولُ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرةَ حُزْن، قائلاً كما روى
الإمام أحمد والترمذيُّ وصحَّحاه: ((والله، إنَّكِ لأَحَبُّ أرض الله
إلَيَّ، وإنَّكِ لأَحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني
مِنْك ما خرجْتُ))، دموعه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُهْراق على
وجنتَيْه، يُعْلِن للعالَم أجْمَع أنَّ وطنَ الداعية حيث مصلحةُ دعوته،
فإذا كانتِ المصلحةُ في الْهِجرة، فلْتُهْجَر الأوطان، ولْيُهجر الإخوان،
وجميع مَن تحبُّ ما دامتْ تتعارض مع مصلحة الدَّعوة إلى الله.
وفي الطريق إلى الغار - كما في "الدلائل"
للبيهقيِّ -: يرى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أبي بكر عجبًا،
يسير أمامه مرَّة، وخلْفَه مرَّة، وعن يمينه مرَّة، وعن شماله مرة، فيسأله
النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: لِمَ هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول
الله، أذكر الطَّلَب فأمشي خلْفَك، وأتذكر الرَّصد فأمشي أمامك، وعن يمينك
وعن شمالك؛ لا آمَن عليك، فيقول النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((يا أبا بكر! لو كان شيء لأحببْتَ أن يكون بك دونِي؟))، قال: نعم، والذي
بعثك بالحقِّ، إن قُتلتُ أنا فإنَّما أنا رجلٌ واحد، وإن قُتِلتَ أنت
هلكَتِ الأُمَّة كلها، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمنون يفدونه بِجَميع ما
يملكون.
ويَصِلان إلى الغار، ويَنْزل
الصدِّيق الغارَ قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستبْرِئُه،
وينظِّفه من أيِّ أذًى، فيقع عليه دون المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -
ثم يَنْزل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتوسَّد، وينام قرير
العين وهو الطَّريد الشريد؛ لأنَّه واثقٌ بِنَصر الله - سبحانه وتعالى -
وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بِأَعظم دور في التاريخ؛ فها هي أَسْماء وعائشة؛
شابَّة وطفلة في بيت أبي بكر، تقومان بما يَعْجز عنه نساء المسلمين اليوم،
لِماذا؟ لأنَّهما تربَّيْن على لا إله إلا الله، فكانت لهم منهج حياة.
يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك، يا بنت أبي بكر؟ فتقول: "لا أدري"
بعِزَّة المؤمنة، فيَرْفع يده فيَلْطم خدَّها لطمة طرح منها قِرْطَها من
أذُنِها - لطَمه الله بنارٍ تلظَّى - ولم تُخْبِره رغم ذلك، وتَثْبت ثبات
الرِّجال الأقوياء، ولَم يُغْنِها ذلك عن القيام بِدَورها مع أختها عائشة،
تلكم الطِّفلة التي لم تبلغ ثماني سنوات في تلك اللَّحظة، قامت أسماء
تجهِّز الطعام وتشقُّ نطاقها؛ لِتَربط الطَّعام - فلُقِّبَتْ بذات
النِّطاقين - وتذهب به إلى المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتوصله
إليه وإلى أبيها هناك.
أمَّا عبدالله بن أبي بكر أخو أسماء،
ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النَّهار - وكان فَطِنًا ذكيًّا
لَبِقًا - وفي الليل يوصلها إلى المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإلى
أبيه، فهو الإعلاميُّ الصادق الأمين الذي تَفْتقر إليه الأُمَّةُ في عصرها
الحاضر.
أمَّا راعي أبي بكر وهو عامِرٌ - رضي
الله عنه وأرضاه - فلقد كان يَمُرُّ بغنمه على المصطفى - صلَّى الله عليه
وسلَّم - وأبي بكر لِيُخفي آثار أسماء وعبدالله، ويَسْقي النبِيَّ - صلَّى
الله عليه وسلَّم - وأبا بكر مِن لبَنِ الغنم كلَّ ليلة يفعل ذلك.
تضحيات ومفاخر خالدات، لَم تجتمع إلاَّ
لآل أبي بكر - رضي الله عنهم - ويَنْبغي أن تَفْدي أُمَّة الإسلام
النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكلِّ ما تَمْلك في سبيل توطيد دعائم
هذا الدين، ونُصْرة سيِّد المرسَلين - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وصل المشركون إلى الغار، واشتدَّ البحثُ
عن رسول الله وصاحبِه، وتفرَّقَت العُيون في الدُّروب، وفي الجبال، وفي
الكهوف، واقتُفِيَت الآثار حتَّى أحاطوا برسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - وصاحبِه في الغار، وأصبَحا منهم رأْي العين، وأزاغ الله منهم
الأبصار، حزن أبو بكر - رضي الله عنه - حزنًا شديدًا على رسول الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - لا على نفسه فما كان يعيش لِنَفسِه، فقال: يا
رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظَر إلى قدمَيْه لرآنا، فقال - وهو في جوْف
الجبل أشدَّ ثباتًا من ذلك الجبل، في ثقةٍ بالله جلَّ جلالُه -: ((يا أبا
بكر، ما ظنُّك باثنيْن اللهُ ثالثهما؟! لا تحزَنْ إنَّ الله معنا)).
واللهِ الَّذي لا إله إلا هو، لوْ سارتْ
مع قُرَيْشٍ كلُّ الأحْياء، وتشقَّقت القبور فخرجت الأموات يَسْحبون
أكفانَهم خلْف قريش، يقلبون حجارة الأرض، ويُزحزِحون جبالَها، ويُفتِّشون
فِجاجَها - ما قدروا على اثنيْن اللهُ ثالثُهما، لقد كان رسول الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - في حالةٍ من الأَمْن والطُّمَأنينة لم يَصِل
إليها بشَرٌ في الأرض، وهو يرى نفْسَه بين عَدُوِّه لا يحول بينهما إلاَّ
التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنَّه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمَن يَخاف؟! ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
قال عمر: "واللهِ لَلَيلةٌ من أبي بكر خيْرٌ من آل عمر"؛ يقصد ليلة الغار.
والْمُتأمِّل لِهَذه الحادثة يرى أنَّ
الذين اختارهم الله لهذا السَّبْق جميعهم من الشباب، إلاَّ كهلاً واحدًا
هو أبو بكر، فينادي بلسان الحال: إنَّ سواعد الشباب تتكاتَف مع عقول
الشُّيوخ، فيصير بعد ذلك في أُمَّة الإسلام جيلٌ كاملٌ متكامل يَرْضى
بالبَذْل، ويُضحِّي في سبيل دعوته، لا تعوقه أزمات، ولا تصدُّه عقبات.
ولَمَّا يَئِس المشركون من الظَّفَر
بِهما، جعلوا لمن جاء بِهم دية كلِّ واحد منهما، فجدَّ الناسُ في
الطَّلَب، فلمَّا مَرُّوا بِحيِّ مُدْلِج بَصر بِهم سُراقة بن مالك، فركب
جوادَه، وسار في طلبهم، فلمَّا قرب منهم سَمِع قراءة النَّبِيِّ - صلَّى
الله عليه وسلَّم - ثم دعا عليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فساخت يدَا فرَسِه في الأرض، ثم قال سراقة: ادْعُ الله لي، ولكما عليَّ أن
أَرُدَّ الناس عنكما، فدعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فأُطْلِق، ورجع يقول للنَّاس: قد كُفيتُكم ما ها هنا.
ومَرَّ رسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - في مسيره ذلك بخيمة أمِّ مَعْبد، فقالا عندها - نامَا نوم
القيلولة - ورأَتْ من آيات نُبوَّتِه في الشَّاة وحَلْبِها لبنًا كثيرًا
في سنَة مُجدبة ما بَهَر العقول - صلوات الله وسلامه عليه.
ويَصِل رسولُ الله إلى المدينة،
وقد بلَغ الأنصارَ مَخرجُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة، وقصده
المدينة، فتجسد الأنصار أروع أنواع المَحبَّة في أبْهى صُوَرها في
استقباله عند هجرته إليهم - صلوات الله وسلامه عليه.
قال ابن القيِّم - رَحِمه الله - واصفًا
هذه المشاعر النَّبيلة: وبلغ الأنصار مَخرج رسول اللَّه - صلَّى الله عليه
وسلَّم - من مكَّة، وقصْده المدينة، وكانوا يَخْرجون كُلَّ يوم إلى
الْحَرَّة ينتظرونه أوَّل النهار، فإذا اشتدَّ حرُّ الشمس، رجعوا على
عادَتِهم إلى منازلِهم، فلمَّا كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على
رأس ثلاثَ عشرة سنةً من النُّبوَّة، خرجوا على عادَتِهم، فلَمَّا حَمِي
حَرُّ الشمس رجعوا، وصعد رجلٌ من اليهود على أُطم من آطام المدينة لبعض
شأنه فرأى رسولَ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابَه، مُبيَّضين،
يزول بِهم السَّراب، فصرَخ بأعلى صوته: يا بَنِي قيلة، هذا صاحِبُكم قد
جاء، هذا جدُّكم الذي تنتظرونه، فبادَرَ الأنصار إلى السِّلاح؛
لِيَتلقَّوا رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسُمِعَت الرجَّة
والتكبير في بَنِي عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون؛ فَرحًا بقدومه، وخرجوا
للِقَائه، فتلقَّوه، وحيَّوه بتحية النُّبوة، فأحدقوا به مُطيفين حولَه،
والسَّكينة تَغْشاه، والوحي يَنْزل عليه، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [التحريم: 4]؛ "زاد المعاد" (3/ 52).
إنَّها لحظات يتمنَّى كلُّ مسلم أن
يعيشها، وأن يسكُبَ شيئًا من الدُّموع فرحًا بِها، الْمَوكب يتحرَّك
بِبُطء، الطريق قد ازدحم بِسَيل الدُّموع وابتسامات الأطفال ولفتات
الجموع، وسار على القَصْواء يُرخي زِمامَها، كُلَّما مرَّ بدارٍ من دور
الأنصار أمسكوا بزِمام النَّاقة؛ لِيَنْزل عليهم، وهو يقول: دَعوها؛
فإنَّها مأمورة، وعلى الطُّرق، وفِي البيوت لا تكاد تَسْمع إلاَّ "الله أكبر، جاء رسولُ الله"،
الموكب يتهادى بين القلوبِ، والبيوت، والأطفال يركضون، ويقفزون، ويهتفون،
وبِبَراءة العيون في خَللِ الزَّحام عن صاحب النَّاقة يبحثون، وبِلُغتهم
يُعبِّرون، فيهم أنَسٌ - رضي الله عنه - يَصِفُ ذلك بِحُروف تنبض
بالمشاعر، فيقول: إنِّي لأَسْعى في الغلمان، وهم يقولون: جاء مُحمَّدٌ
رسول الله، فلا أرى شيئًا، وأسعى، ولا أرى شيئًا، حتَّى جاء فخرج أهلُ
المدينة، حتَّى إنَّ العواتق فوق البيوت يَتراءَيْنه، فما رأَيْن منظرًا
شبيهًا به يومئذ، والله لقد أضاء مِن المدينة كلُّ شيء، ولم يُرَ في
تاريخها مِن حفاوة تُعادِلُها حفاوة.
أنسٌ - رضي الله عنه - لم يَزل الطِّفل
الذي لا يَهْدأ، طافَ المدينة يَنظر ويُنقِّل، فيَذكر بعْدُ أنَّ النبي -
صلَّى الله عليه وسلم - مرَّ بحيٍّ مِن بني النجَّار، وجُوَيرياتٌ
يُنْشِدن:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجِّارِ يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
|
فيقول - صلَّى الله عليه وسلم -: ((اللهُ
يعلمُ أن قلبي يُحبُّكن))، يا له من نَبِيٍّ! ما أعظمه! ما أرقَّ
مشاعِرَه! يُعْلِن حُبَّه للصغير والكبير، في البيوت وعلى الطرقات، بل
ويُعلن حُبَّه حتَّى للجِبال، يَمرُّ بعْدُ مِن عند أُحُد، فيقول: ((هذا
أحُد، جبلٌ يحبُّنا ونُحبُّه)).
وما زال الموكب يسير، وأمام بيت أبي
أيُّوب برَكَت الناقة، فنَزل - صلَّى الله عليه وسلم - عن ناقته، وازدحَم
عليه أنصارُه، كلٌّ يَعْرِض عليه النُّزول، ويتسلَّلُ أبو أيوب - رضي الله
عنه - فيأخذ رَحْل النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلم - إلى بيتِه، وهم في
خِضَمِّ ذلك قال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أين رَحْلي؟))، قال أبو
أيُّوب: هو عندي، قال: ((المرء مع رَحْلِه))، هيِّئْ لنا مقيلاً، وقد
هيَّأه، وَحلَّ في دارِ أبي أيُّوب وقَلْبِ أبي أيوب، والمدينةُ كلُّها
تَغْبطه، وتَعْرف الشَّرف الذي حلَّ بين جدران مَنْزله، إي والله.. لكن
رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - نزَل في سُفْل الدَّار عن رَغْبة
مِنه، أمَّا أبو أيُّوب فَبِرغم شدَّة فرَحِه برسول الله - صلَّى الله
عليه وسلم - فقد كان في حرجٍ عظيم، لو رأيتَه وهو يسير في مَنْزِله
لأشفَقْتَ عليه، لا يتحرَّك إلاَّ في مساحة ضيِّقة من عُلْيَة بيته، لا
يتعدَّاها، في حسٍّ مُرْهَف، وإيمانٍ عميق، يُخاطب نفْسَه، ويقول: وَيْحك
أبا أيُّوب، أتَعْلو رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - وأصبحَ، فأتَى
النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - فقال: لا تكون تَحْتَنا بِأَبِي أنت
وأُمِّي ونفسي يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا
أيُّوب، السُّفلُ بنا؛ يغشاني أصحابي))، فقال أبو أيُّوب: والله لا أَعْلو
سقيفةً أنت تَحْتَها يا رسول الله، فتحوَّل رسولُ الله - صلَّى الله عليه
وسلم - وقرَّت عينُ أَبِي أيوب - رضي الله عنه وأرضاه.
يقول الشاعر:
خُلُقٌ كَمَا خَطَرَ النَّسِي مُ فَهَزَّ أَعْطَافَ النَّبَاتْ
وَشَمَائِلٌ عُلْوِيَّةٌ أَصْفَى مِنَ الْمَاءِ الفُرَاتْ
|
لقد أحَبُّوه حُبًّا ملَكَ عليهم مشاعِرَهم، وخالط دماءَهم، وحلَّ في سُويدائهم - رضوان الله عليهم - فأين نَحْن من هؤلاء الأصحاب؟!
هل امتلأَتْ القلوبُ حُبًّا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم
نُقدِّم قولاً بين قوله، ولا فعلاً على فِعْله؟ أم مَحبَّتُه والاعتراف
بالاقتداء بِهَديه، شقْشَقَةُ لسانٍ فقط؟ مَن أحبَّ رسولَ الله بذَلَ
الغالِيَ والنَّفيس كالصحابة الكِرَام، وسَخَّر جهده، وقلمَه، وبَنِيه،
ومالَه؛ للدِّفاع عن رسول الْهُدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما فعَلَ
أبو بكر، ولكن أين نحن مِن أبي بكر؟!
إننا أُمَّة رسالة ولا شكَّ، وحين
نتخلَّى عنها تتنَزَّل بنا المِحَن والمصائب والنَّكبات، ورسالة أُمَّتِنا
في الحياة هي الدَّعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - على الْمَنهج الصحيح
الصادق، والله - عزَّ وجلَّ - قد جعل وظيفة الأنبياء هي الدَّعوة إلى
الله، ونَحن أُمَناء الله على رسالته، ونحن مستخْلَفون لتبليغ منهج الله،
ونحن مكلَّفون بقيادة البشرية، وفي ظلِّ عدالتنا يُعْبَد الله، وفي ظلِّ
حضارتنا يُكرَّم الإنسان في أرض الله، وكلُّ وضْعٍ يَجْعل قيادة البشرية
لِغَير الأُمَّة المُسْلِمة فهو وضع نشازٌ طارئ، تَضِجُّ منه الأرض
والسَّماء، ويَأْثَم المُسْلِمون حتى يُعيدوا القيادة لَهم: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
ألسْتَ من أتباع محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم؟!
ألستَ ترضى بالسَّيْر على خُطَى مُحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم؟! إن كنتَ كذلك فلا بُدَّ لك أن يكون لك من دعوتِه نصيبٌ ﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].
اللهم انْصُر دينك، وأَعْلِ كلمتَك، وارْفَع رايتك على العالَمين، واجعلنا مِمَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه.
اللَّهم
وكما آمنَّا بنبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولَم نرَه، فلا تُفَرِّق
بيننا وبينه حتَّى تُدْخِلنا مدْخَله، واحشرنا في زُمْرته، واسْقِنا من
حوضه شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا.
المصدر / شبكة الألوكة