بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد الخلق اجمعين
الفرق بين شرى واشترى
من المقرر في القرآن الكريم- ومنه تُستقى سلامة اللغة العربية وتُذاق حلاوتها- أن فعل: «شرى» يعني: «باع»، وفعل: «اشترى» يعني: «ابتاع».
ومعلوم أن حرف التاء إذا وُجد في الفعل دلَّ على طلب الشيء، والسعي له برغبةٍ وحرص وعزيمة: كـ استمع واكتسب وتطهّر.
وهكذا يبدو لنا واضحاً جلّياً أن «شرى واشترى» متعاكسان في الهدف والمراد؛ فالأول للاستغناء عن الشيء، والثاني –وفيه التاء- لطلب الشيء وشرائه.
وآخر الآية [102] من سورة البقرة واضحة الدلالة على توضيح الفرق بين «شرى واشترى»، وأنهما فعلان متضادان متعاكسان في المعنى كما ذكرت من قبل قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾. أي: ولقد علم اليهود أن من اختار السحر، وحرص عليه وعمل به ليس له نصيب من الجنة، ولبئس ما باعوا به أنفسهم عوضاً عن الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفروا به، وتركوا العمل بما علموا أنه صادق فيما جاء به وبلّغ عن ربه ولو علموا ما ينتظرهم من العذاب بكفرهم هذا لأقلعوا عنه وآمنوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم جاهلون اشتروا الضلالة بالهدى. أي: حرصوا على الضلالة فعملوا بها، واستغنوا عن الهدى ونبذوه. والآية التي بعدها [103] تبين هذا، وأنهم لو عقلوا لعلموا أن الإيمان هو الخير وأن السحر وآثاره شر: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ 103﴾ [البقرة: 103] فالسحر –وقد عمل به اليهود- هو من الموبقات السبع يُراد منه الإضرار بالناس، والتفريق بين المرء وزوجه، وغرس بذور العداوة والبغض في قلوب المتحابين ليتعادَوا ويتقاتلوا: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ [البقرة: 102]، ومما يؤيد الفرق بين «شرى واشترى» هذه الآيات أيضاً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207] وقد نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه لأنه تخلّى عن ماله بمكة المكرمة ليمكّنوه أي: كفارها من الهجرة إلى المدينة المنورة، فيلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم بذلك قال له: «ربح البيع أبا يحيى صهيب ربح البيع» ففعل «يشري» بمعنى يبيع.
وقال تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا 74﴾ [النساء: 74] وفي الآية وعدٌ من الله تعالى لمن يجاهدون في سبيل الله تعالى، ويضحون بأرواحهم وأموالهم فيبيعون الدنيا ليفوزوا بنعيم الآخرة: أن يفوزوا بالشهادة في سبيل الله أو النصر والمجد في الدنيا، وبأجرٍ عظيم يوم القيامة في جنات الخلد، وفعل «يشرون» بمعنى يبيعون، وقال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ 20﴾ [يوسف: 20] أي: باعه رجال القافلة بثمن حرام لأنه يحرم بيعه، وزهيدٍ قليل، ففعل «شروه» بمعنى باعوه.
وقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ16﴾ [البقرة: 16] أي: إن المنافقين اشتروا الضلال وأصرّوا عليه واستغنوا عن الهدى وتركوه فخسرت تجارتهم حين استبدلوا الكفر بالإيمان ففعل «اشتروا» بمعنى ابتاعوا.
وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ86﴾ [البقرة: 86] والآية في بني إسرائيل الذين كفروا بما أُنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حسداً وعناداً، فاشتروا الدنيا، وباعوا الآخرة، واستبدلوا الدنيا الفانية بالآخرة الباقية، وفضّلوا قليل الدنيا على كثير الآخرة فسوف يعذبون عذاباً شديداً؛ فلا يجدون من ينصرهم، أو يمنع عنهم العذاب، أو يخفّفه.
وقال تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ 90﴾ [البقرة: 90].
والآية في بني إسرائيل أيضاً الذين كفروا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يبشرون به حسداً وبغياً منهم؛ فقد ظنّوا أن يكون عبرياً، ومن ذرية إسحق ويعقوب عليهما السلام، ولما كان عربياً من ذرية إسماعيل عليه السلام كفروا به وبما أنزل عليه، وناصبوه العداء، وغدروا بكل عهد عاهدوه به، وظنّوا أنهم بكفرهم هذا سينجون في الدنيا والآخرة، وسيحفظون أنفسهم إن حرّفوا التوراة التي تُبشر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ورسالته، وكفروا بالقرآن وشريعته متوهمين أنهم بكفرهم هذا كأنهم يشترون أنفسهم ويحافظون عليها ويصونونها من البوار والهلاك والعذاب فخاب ظنهم، وعادوا بخفَّي حُنَين حيث سخط الله تعالى عليهم، وغضب غضباً شديداً، وأعدَّ لهم عذاباً مُهيناً. فهم باعوا أنفسهم للشيطان، ولم يشتروها، ولم يبتاعوها ففعل «يشترون» بمعنى يبتاعون وينقذون أنفسهم على حد زعمهم، وهم خاطئون واهمون أو على تقدير مضاف محذوف أي: بئسما اشتروا به شهوات أو رغبات أو مطامع أنفسهم الخبيثة في الدنيا حين كفروا بالقرآن وشريعته. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ177﴾ [آل عمران: 177]. والآية تصف المنافقين بعد غزوة أحد، وكيف جبنوا وتقاعسوا وارتدّوا، واستبدلوا الكفر بالإيمان وتتوعدهم بعذاب أليم في الدنيا والآخرة، وتبيّن أنهم لن يضروا الله ودينه بشيء إن كفروا. وقال تعالى: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ187﴾ [آل عمران: 187] والآية تُبيّن أن أهل الكتاب عاهدوا الله أن يُبيّنوا ما في التوراة والإنجيل من أحكام وأخبار، ومنها وصف النبي محمد صلى الله
عليه وسلم، والبشارة به، وأنه نبي مرسل يبعث خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه صادق في كل ما يقول مخلص في كل ما يعمل أو يفعل، فنقضوا عهدهم مع الله تعالى، واشترَوا ثمناً قليلاً من متاع الدنيا بدل الحق الذي كتموه، ونبذوه وراء ظهورهم، فبئس ما اشتروا وما يشترون: «فاشتروا» بمعنى ابتاعوا.
وأخيراً قال تعالى في سورة التوبة [111]: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ ففعل «اشترى» بمعنى «ابتاع»، ولا ننسى أن وجود «التاء» في فعلي: «اشترى وابتاع» يدلُّ على طلب الشيء، والحصول والحرص عليه، وخلوَّها من فعلي: «شرى وباع» يدل على التخلي عن الشيء، والاستغناء عنه، وإذا كان بعضهم أجاز استعمال شرى بمعنى اشترى لكثرة استعمال العامّة لها كذلك؛ فإنني أمنع هذا ولا أراه أبداً لأنه يخالف ما جرى عليه القرآن الكريم كما رأينا من قبل، ولستُ ممن يؤيّد أن خطأً شائعاً خير من صواب مهجور؛ بل الواجب علينا تصحيح الخطأ حيث كان في كل شيء ليكون بنيان الأمة –مادياً ومعنوياً قولاً وعملاً وفعلاً- قائماً على أساسٍ متين صحيح من الحقيقة والعلم والمعرفة والصواب، فيدومَ لها عزها ومجدها، ويتحقق لها النصر، وتستعيد قيادتها وريادتها للأمم والحضارات وتغدوَ قدوةً في كل شيء. وإذا كان الشاعر يجوز له ما لا يجوز لغيره فاستعماله فعل شرى بمعنى اشترى في نظري ضرورة قبيحة لا يُضطر إليها شاعر مجيد، ومن طريف ما ورد من هذه الضرورة القبيحة أن رجلاً كان يسكن في جادة نوري باشا المطلة على «نهر تورا» الذي يعبر دمشق عند الجسر الأبيض. زاره صديق له، فجلسا على ضفة النهر، وأخذ صاحب الدار يلتقط من النهر قطع الفواكه المتنوعة التي وقعت في النهر من بساتين الربوة وما حولها. حتى ملأ منها صحناً كبيراً قدّم للضيف الذي عجب من ذلك وتساءل فنظم صاحب الدار ذلك في بيتين من الشعر فقال:
يقول وقد رأى تورا خليلي يفيض بسائر الثمرات فيضَاً
أيكفيكم فلا تَشْرون شيئاً؟!فقلت له: نعم ونبيع أيضَاً
فقد استعمل فعل «تَشْرون» بمعنى «تَشْتَرون» مضطراً لضرورة موسيقا الشعر ووزنه وكان باستطاعته أن يقول:
أيكفي دون أن تبْتاعوا شيئاولو فعل ذلك لصح الوزن، وسلمت اللغة والموسيقا. ففعل «ابتاع» بمعنى «اشترى» فتأمّل.
* * *
* المصدر:
- الجديد في فقه لغة القرآن الكريم: الشيخ هشام الحمصي