إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
كيف يحدث الوعي؟ عالمان رائدان في علم الأعصاب (كوخ & سوزان گرينفيلد)
يقومان بمقارنة نظريتيهما المختلفتين حول الكيفية
التي تولِّد الفعاليةُ الدماغية وفقها خبرةً ذاتية.
تُعدُّ الكيفية التي تجري بها ترجمة العمليات الدماغية إلى وعي consciousness، واحدةً من أعظم المسائل غير المحلولة في العلم. فمع أن الأسلوب العلمي(1)
يستطيع أن يصف بدقة الأحداث التي تلت الانفجار الأعظم مباشرة، ويستطيع
كذلك استجلاء التفاصيل الكيميائية البيولوجية (البيوكيميائية) الأساسية
للدماغ، فإنه أخفق تماما في تفسير مُرضٍ لكيفية نشوء الخبرة الذاتية(2).
وباعتبارنا علماء أعصاب، فقد
جعل كلانا محاولة حل هذا اللغز هدفا حياتيا له. صحيح إن كلَينْا يتشارك في
وجهات نظر عامة عديدة، ومن ضمنها اعترافنا المهم بعدم وجود مسألة واحدة
تتعلق بالوعي، ولكننا نواجه ظواهر كثيرة يجب تفسيرها، وعلى الخصوص وَعْي
الذات self-consciousness
(بمعنى المقدرة على فحص رغبات المرء الخاصة وأفكاره) ومحتوى الوعي (بمعنى
ما تعيه فعلا في كل لحظة) والكيفية التي ترتبط فيها العمليات الدماغية
بالوعي واللاوعي nonconsciousness.
إذن، فمن أين يبدأ الحلّ؟ إن
علماء الأعصاب لا يعرفون حتى الآن ما يكفي بخصوص كيف يعمل الدماغ بالقدر
الذي يمكِّنهم بشكل دقيق من معرفة كيف ينبثق الوعي من النشاط الكهربائي
والكيميائي للعصبونات. وبذلك، فإن الخطوة الكبيرة الأولى تكمن في تحديد
أفضل المترابطات العصبونيَّة للوعي(3) (أو NCC
اختصارا)، بمعنى الفعالية الدماغية التي تتوافق مع الخبرات الواعية
النوعية. فعندما تدرك أنك ترى كلبا، فما عصبونات دماغك التي تتأثر بذلك؟
وحينما تشعر بالحزن ينتابك فجأة، فماذا يحدث في دماغك؟ وكلانا يحاول إيجاد
النظير العصبوني لكل خبرة ذاتية يمكن أن يمتلكها الفرد، وهذا هو الذي
نختلف كلانا حوله.
لقد برز عدم اتفاقنا حول أفضل المترابطات NCC في أثناء نقاش دار بيننا (المؤلفيْن) في جامعة أكسفورد خلال صيف عام 2006،
بدعم من قبل مؤسسة العلوم العقلية في سان أنطونيو. ومنذئذ واصل كل منا
استكشاف الآخر وتحدِّيه على شكل حوار أفرز هذه المقالة. ومع ذلك، فإننا
ملتزمان بعمومية مشتركة أساسية واحدة تتمثل في أن آراءَنا تنبع بشكل أوّلي
من علم الأعصاب، وليس من الفلسفة فحسب. لقد درس كلانا كمية هائلة من
البيانات العلمية العصبية والسريرية والنفسانية، وإليها استندت أحكامنا.
«ثمّة مجموعات نوعية من العصبونات تتوسط خبرات واعية منفصلة.»
أبحث مع سوزان گرينفيلد> عن أحسن المترابطات NCC المناسبة. فإذا استطعنا إيجاد المترابطات NCC الصحيحة، فقد يستتبع ذلك البحث عن آليّات السبب والنتيجة(4) المباشرة التي تكوّن الوعي.
فمن وجهة نظري التي نشأت منذ أن بدأتُ مع <F.كريك> في عام 1988 بتقصي الوعي، فإنّ كل مُدْرَكَة percept (بمعنى الكيفية التي يصوِّر بها الدماغ المنبهات الواردة إليه من الحواس) تتمثّل بائتلاف coalition نوعي من العصبونات يؤدي عمله بطريقة معينة. فهناك مترابطة NCC تخصُّ رؤية رقعة حمراء، وأخرى تخصُّ رؤية المرء لجدَّته وثالثة تخصُّ شعور الغضب. واضطراب أو إيقاف أيّ مترابطة NCC سيؤدي إلى تغيير المدركة التي تلازم تلك المترابطة أو تجعل تلك المدركة تختفي.
ومن الناحية الفيزيولوجية، يحتمل أن تكون الركازة substrate المسؤولة عن المترابطة NCC ائتلافا من العصبونات الهرمية، وهي نمط من العصبونات، التي تمرِّر الإشارات على مسافات طويلة المدى داخل القشرة المخيِّة(5).
وربما يحتاج تشكيل أحد هذه الائتلافات إلى مليون من مثل هذه العصبونات (من
أصل الخمسين حتى المئة بليون من العصبونات الموجودة في رؤوسنا). فحينما
تدخل <سوزان>، على سبيل المثال، غرفة مكتظة بالناس وأرى وجهها،
سرعان ما ينتظم ائتلاف من العصبونات في دردشة جماعية لمدة جزء من الثانية
أو أكثر. ومن حيث الموقع، يمتد هذا الائتلاف العصبوني من مؤخّرة القشرة
المخيَّة (حيث تجري معالجة المنبِّهات الإبصارية visual stimuli
بداية) إلى مقدّمة هذه القشرة التي تؤدِّي وظائف تنفيذية. ويمكنني تمتين
مثل هذا الائتلاف العصبوني إذا وجَّهتُ انتباهي إلى مُنشط صورتها على
شبكيّة عيني، التي تقوي سعة amplitude
أو تزامن حدوث النشاط بين العصبونات المنتقاة. ويقوم الائتلاف بتعزيز نفسه
وكبْت الائتلافات المنافسة له، وذلك عن طريق بثِّ إشارات استثارية جيئة
وذهابا بين العصبونات الموجودة في مؤخرة القشرة المخية ومقدمتها. فإذا
نادى أحدٌ ما اسمي فجأة، فإن ائتلافا عصبونيا مختلفا ينبعث في القشرة
المخية السمعية auditory cortex.
ويؤسس هذا الائتلاف الجديد اتصالا ثنائي الاتجاه مع مقدِّمة الدماغ، بحيث
يركِّز وَعْيي على هذا الصوت، وهنا يكبت الائتلاف الجديد الائتلاف السابق
الممثل لوجه <سوزان>، فتذبل بذلك صورة الوجه في وعيي.
[center]
حجج أساسية تفسير الوعي(**)
ماذا يحدث في دماغك حينما تري كلبا أو تسمع صوتا أو تستشعر حزنا أو تحيا أي خبرة ذاتية أخري؟
نموذج كوخ يضطرم ائتلاف من عصبونات هرمية تقوم بوصل مؤخرة القشرة المخية بمقدمتها بطريقة مميزة. وتنشط ائتلافات مختلفة لتمثيل المنبهات المختلفة القادمة من الحواس (في اليسار). ففي القشرة المخية للفأر (في اليمين) تقع هذه الخلايا الهرمية في الطبقة الدماغية الخامسة brain layer 5 وتحيط بها خلايا غير عصبونية (اللون الأزرق).
نموذج كرينفيلد تضطرم عصبونات عبر الدماغ في آن واحد (اللون الأخضر) ويدوم الأضطرام إلي أن يثير منبه ثان تجمعا عصبونيا مختلفا (اللون البرتقالي). وتندمج تجمعات متباينة وتفكك من لحظة إلي أخري, في حين تستقطب تلقيما راجعا (أو تغذية مرتدة) من الجسم. والصورة أدناه لدماغ جرذ, حيث يشكل تجمع عصبوني في القشرة المخية الذروتين a و b ليبلغ الأوج في c ثم في d خلال 0.35 من الثانية عقب تنبه المهاد كهربائيا
|
ثمَّة درسٌ شامل يُستَقى من
البيولوجيا، مفاده أن الكائنات الحية تطوِّر أدوات نوعية. ويَصْدُق هذا
بالنسبة إلى الدماغ. فالخلايا العصبية طوّرت الكثير من الأشكال والوظائف،
كما طوّرت نماذج نوعية من التشبيك wiring فيما بينها. وينعكس هذا التباين البعيد على العصبونات التي تؤلف المترابطة NCC. وأشير هنا إلى أنّني أختلف مع <سوزان> في هذه النقطة بالذات. فمن وجهة نظري، لا يمثِّل الوعي خاصِّيَّة شموليَّة(6) لمجموعة كبيرة من عصبونات آخذة في الاضطرام(7) يغمرها محلول من النواقل العصبية(8)، وذلك على حد قول <سوزان>، بل إنني أجزم بأنّ مجموعات نوعية من العصبونات تتوسط، أو حتى تولِّد، خبرات experiences واعية متميِّزة بعضها من بعض.
وهنا سرعان ما تنقلنا مقدرة علماء الأعصاب المتزايدة على المداولة(9) الرهيفة لمجاميع العصبونات من مرحلة ملاحظة أنّ حالة واعية خاصة يصاحبها نشاط عصبوني إلى تحديد السببيَّة causation، وذلك بتحديد المجموعة العصبونية المسؤولة كليّا أو جزئيّا عن حالة واعية ما بعينها.
ولكن كيف نحدِّد أيّا من المجموعات العصبونية، وأيَّ نشاط فيما بينها، يؤلف مُدْرَكةً واعية معيَّنة؟ وهل تتضمّن المترابطات NCC جميع العصبونات الهرمية الموجودة في قشرة المخ في أي وقت مفروض؟ أم إن المترابطات NCC هذه تتضمّن مجرد مجموعة جزئية من خلايا ارتسامية projection cells تصل بين الفصوص الجبهية والقشرات المخية الحسية الكائنة في مؤخَّرة الدماغ؟ أم إنها تتضمَّن في أي مكان عصبونات تضطرم في زمن واحد؟
لقد تركّز الكثير من العمل الحديث فيما يخص المترابطات NCC على الإبصار (الرؤية) vision،
كما استكمل علماء النفس تقنيات مواراة الأشياء عن الإدراك الواعي، على
غرار الساحر الذي يوجِّهنا بشكل مغلوط حتى لا نرى ما يحدث أمام عيوننا.
ويتمثّل أحد الأمثلة في ظاهرة كبت الوميض flash suppression التي اكتشفها معي أحد طلبتي <N.تسوشيا> المتخرج عام 2005.
فإدراك صورة ساكنة صغيرة بإحدى العينين (ولتكن صورة وجه رمادية باهتة
وعابسة ترتسم على العين اليمنى) يتعرّض لِكَبْت تام حين يجري باستمرار
تسليط بقع ضوء متغيِّرة الألوان على العين الأخرى. ويمكن أن يدوم هذا
الكبت بضع دقائق، حتى إن كان الوجه الغاضب يُرى تماما عندما يومِض المشاهد
عينه اليسرى. ومع أن جحافل من العصبونات في القشرة المخية الإبصارية
الأولية تضطرم بشكل نشيط استجابة للتنبيه من العين اليسرى، فإن هذه
الجحافل لا تسهم في الوعي. وقد يصعب تفسير هذه النتيجة طبقا لوجهة نظر
<سوزان> بأن كل اضطرام متماسك تضطلع به مجموعة كبيرة من العصبونات،
ينتمي إلى المترابطة NCC. ويلجأ الباحثون إلى استخدام مثل هذه التوهُّمات (الضلالات) illusions لاكتشاف المترابطة NCC في أدمغة النسانيس المدرَّبة والبشر.
[نقطة مقابل نقطة]
لماذا تبعث الساعة المنبِّهة وَعْي الشخص النائم (اللاواعي)؟(***)
وجهة نظر كوخ: تستجيب عصبونات كائنة في منطقة من الدماغ تدعى الموضع الأزرق locus coeruleus لمدخول كبير مفاجئ يردها من العصب السمعي. فتبادر إلى بثٍّ مكثف لإشارة كيميائية باتجاه المهاد والقشرة المخيِّة. وتقوم عصبونات أخرى بإطلاق الناقل العصبي المسمى أستيلكولين(10) في أرجاء الدماغ. وتكون النتيجة النهائية صيرورة القشرة المخية والبنى التابعة لها متيقِّظة. وفور حدوث ذلك يقوم تجمُّعٌ واسع الانتشار، لكنه محكم الاتصالات، في القشرة المخية السمعية auditory cortex ومعه نظائره العصبونية (في مُقدِّمة الدماغ وفي الفصين الصدغيين الأوسطين) التي تدعم التخطيط والذاكرة، بتأسيس ائتلاف مستقر عبر استخدام التلقيم الراجع المتكرِّر recurrent. ولا تستغرق هذه الفعالية سوى جزء من الثانية وتجعلك تعي المنبه.
وجهة نظر گرينفيلد: إن كل منبِّه حسِّي قوي (مثل ضوء ساطع) سيثير الوعي، ولذلك لن تكون هناك منطقة معيَّنة من الدماغ مسؤولة عن إيقاظك. فالساعة المُنَبِّهة تستحث الوعي، لا بسبب نوعية المنبِّه (وهي هنا سمعية) ولكن بسبب كميته (بمعنى علوِّه). إن التجمُّعات العصبونية المرحلية العابرة، التي يعمل العديد منها في وفاق، ترتبط بدرجات متفاوتة من الوعي، ويتقرر قدّ التجمُّع من لحظة إلى اللحظة التي تليها بمدى استعداد العصبونات للتجمُّع في تزامن مرحلي. وتُعدُ قوّة التنبيه الحسِّي عاملا رئيسيّا تشبه تأثيراته مفعول حجر يُلقى في بركة ماء؛ فكلما كبر الحجر اتسعت التموُّجات في الماء. وفي حالتنا، كلما ارتفع صوت المنبِّه (أو زاد سطوع الضوء) ازداد احتمال استقطابه لتجمُّع من العصبونات أكثر اتساعا، وكلما ازداد اتساع التجمُّع ازداد احتمال يقظتك.
|
وقبل وفاة <گريك>
تقدَّمتُ وإياه ببضعة اقتراحات عن كيفية عمل الوعي مبنيَّة على نتائج
تجريبيَّة. ويفيد أحد هذه الاقتراحات بأن المترابطات NCC تتضمَّن عصبونات هرمية متموضعة استراتيجيّا في منطقة مُخْرجات output zone القشرة المخية المعروفة بأنها الطبقة الخامسة layer 5
ـ فهذه الخلايا تبعث إشاراتها إلى مجموعة عصبونات هرمية أخرى في منطقة
مختلفة وتستقبل في آن معا مُدْخلات استثارية قويّة مباشرة من تلك المنطقة.
ويمكن أن يؤدي هذا الترتيب تلقيم راجع إيجابي على شكل ائتلاف من عصبونات
تحافظ حالما تنقدح triggered على
اضطرامها إلى حين إسكاتها من قِبل ائتلاف آخر من العصبونات. وكذلك تضطرم
هذه المُؤتلفات في مدى أجزاء من الثانية، وهو الزمن الأقرب جدّا للمقياس
الزمني timescale للشعور الواعي أكثر منه لاضطرامات العصبون الواحد.
لقد حظيت فكرة الشبكات
العصبونية هذه بتأييد نتائج حديثة لباحثين من كلية طب جامعة سينا في
كولومبيا ومن معهد الطب النفسي لولاية نيويورك الذي يشرف عليه <C.S.سيلفون> [من ماونت سينا] و<A.كنگرش> [من كولومبيا]. وقد بيَّنت مجموعتا <سيلفون> و<كنگرش> في تجارب على الفئران المحوَّرة جينيا أن المُهَلْوسات hallucinogens، مثل LSD وسيلوسيبين psilocybin (الذي يدخل في محتويات الفطور mushrooms)،
تفعل فعلها في نمط من الجزيئات يدعى مستقبل السيروتونين ويقع على الخلايا
الهرمية التي تتجمّع في الطبقة الخامسة. وفرضيّة كون تأثيرات الشرود
العقلي mined-bending
التي تنجم عن المركبات المهلوسة، تتأتى من تفعيل أحد أنماط المستقبلات في
مجموعة نوعية من العصبونات (بدلا من تفكيك الدارات الدماغية بطريقة
شمولية)، يمكن اختبارها بشكل أعمق بأدوات جزيئيّة تستطيع ربط طبقة الخلايا
الهرمية الخامسة وفكّها بشكل متتابع إلى أن تتحدَّد تماما مجموعة
العصبونات المتآثرة.
يحتاج علم الأعصاب إلى نظرية تستطيع التنبُّؤ بما إذا كانت المفردات التالية واعية : ذبابة فاكهة أو كلب أو مريض ألزهايمر غير مستجيب أو إنترنت.
|
أما الاقتراح الآخر للكيفية التي تؤسس بها المترابطات NCC وَعيًا، فيتضمَّن بنية دماغية تسمى العائق claustrum وهي بنية صفيحية الشكل داخل القشرة المخية. والعصبونات المؤلفة لهذه البنية تتلقّى مدخولا input يصلها من جميع مناطق القشرة المخية تقريبا ويرتسم project عائدا إلى جميع القشرة كذلك. وربما تكون هذه البنية قد وضعت تماما للربط بين أنشطة جميع القشرات المخية الحسية sensory cortices المشتركة في مُدْركة concept واحدة.
ومن أجل تطوير هذه الأفكار، يجب على علماء الأعصاب اعتيان sample الفعالية الكهربائية لعدد كبير جدّا من العصبونات في عدة مواقع. إنه عمل دقيق وصعب، ولكن نمنمة miniaturing
الإلكترودات تجعله ممكنا. وتؤكد الجهود الأوّلية أن مجموعات نوعية من
العصبونات تعبِّر عن أنماط الإدراك التي تشكِّل خبراتنا اليومية.
وأي من هذه التبصُّرات يعني
ضمنا أن عصبونا واحدا أو مئة عصبون أو حتى مليون عصبون تعيش داخل طبقٍ
مختبري، يمكن أن يكون واعيّا. فالعصبونات هي جزء من شبكات شاسعة، ولا
يمكنها أن تولِّد وعيا إلاَّ في ذلك السياق. والمضاهاة analogy مفيدة في هذا الصدد: مع أن جزيئات الدنا DNA في خلية توضح تركيب الپروتينات في أجسامنا، فهناك جزيئات أخرى عديدة لا بد من وجودها في الخلية لبناء هذه الپروتينات وصيانتها.
هذا ويمكن للأصل والمدى
المتغيرين لائتلافات عصبونات أن يفسِّرا كذلك المحتوى المختلف للوعي لدى
الأطفال والكبار والحيوانات. أما إمكان تكوُّن ائتلاف ما، فإنه يعتمد
بالكامل على وجود دارات تَيقُّظ arousal circuits
في جذع الدماغ والمهاد (اللذين يُرحِّلان المدخولات الحسية إلى القشرة
المخية). وتكون دارات التيقُّظ هذه متواصلة النشاط وتغطي القشرة المخية
وتوابعها بالنواقل العصبية والمواد الأخرى. فإذا سكتت دارات التيقُّظ عند
شخص ما [على غرار ما يحدث أثناء النوم العميق أو تحت التخدير (البنج) أو
إثر معاناة رضٍّ trauma شبيه بالرضّ الذي تشكو منه <T.شيافو> ، وهي امرأة دخلت في حالة إنباتية vegetative state دائمة، شغلت وسائط الإعلام مدة طويلة]، فإنه لا يمكن نشوء ائتلاف مستقر للعصبونات القشرية والشخص غير واعٍ.
ومع أنه من الممكن اختبار هذا
النموذج من خلال تجارب فيزيولوجية، فثمة نقد مشروع له وهو أنه ليس بنظرية
مبنية على مجموعة مبادئ؛ بمعنى أنه لا يستطيع التنبُّؤ بنمط المنظومة التي
تمتلك خبرات واعية. فعلم الأعصاب بحاجة إلى نظرية تتنبّأ، بناءً على
قياسات فيزيائية، بأي من الكائنات الحية التالية يكون واعيّا وأيُّها لا
يكون: ذبابة الفاكهة، الكلب، الجنين البشري بعد خمسة أشهر من الحمل،
المصاب بألزهايمر وغير المستجيب، شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)،
وهلم جرا.
يعمل بعض الخبراء، ومن ضمنهم <G.تونوني>
[من جامعة وسكونسن-ماديسون] على مثل هذه النظريات. ولكننا لا نزال على قدر
كبير من الجهالة فيما يخصُّ الدماغ، بحيث إننا لا نستطيع إلاّ التوقُّع.
وتُقدّم الفرضيات النوعية التي يمكن اختبارها باستخدام التقانات الحديثة
يد العون في هذا الشأن، فيوم كان <فرانسيس> مغرما بالقول بأن
التجارب هي التي قادت اكتشافه مع <J.واتسون> إلى البنية الحلزونية المضاعفة للدنا(11)، لم تكن توجد أيّ نظرية عن الكيفية التي تتكوَّد بها المعلومات الجينية في جزيئات.
ويتمثّل تفسيري هذا من الناحية الأساسية في أن ما يُسبِّب الوعي هو فروق وصفية(12) وليست كمِّية(13)
في النشاط العصبوني. فالمهم في هذا الصدد ليس العدد البَحْت من العصبونات
المعنيْة حسبما تؤكد <سوزان>، بل هو التعقيد المعلوماتي(14)
الذي تمثِّله العصبونات. فالمُدْرَكة النوعية الواحدة تحتاج إلى شبكة
نوعية من العصبونات، وليس أيّ تجمُّع عشوائي من العصبونات التي تصير عالية
النشاط. وأكثر من ذلك، فإن ائتلاف العصبونات اللازم للوعي الكامل يجب أن
يضمّ التمثيل الحسِّي في مؤخِّرة القشرة المخية إلى جانب البنى الجبهية(15) المَعْنيَّة بالذاكرة والتخطيط واللغة. فالدماغ لا يعمل بفضل خواص كتلته، بل يعمل لأنّ العصبونات تتشبّك(16)
في نماذج نوعيّة خصوصية مدهشة. وتعكس هذه النماذج المعلومات المتكدِّسة
التي تعلَّمها الكائن الحي طوال حياته، إضافة إلى المعلومات التي اكتسبها
من أجداده الذين تتمثّل معلوماتهم في جينات. وليس المعوَّل عليه أن يكون
ثمة عدد كافٍ من العصبونات التي تنشط معا، بل المهم أن تكون العصبونات
الصحيحة هي الناشطة.
«يتولّد الوعي عبر الزيادة الكميِّة في العمل الكلي للدماغ.»
إذا كانت المترابطات NCC مجرّد تفريغات(17) عصبونات معينة دون غيرها، وفقا لاقتراح <Ch.كوخ>
، فإن الوعي عندئذ يقيم في العصبونات نفسها. ولكن <كوخ> لا يقدِّم
تفسيرا يتعلَّق بنوع الخاصِّيَّة الوصفيَّة التي تمتلكها مثل هذه
العصبونات أو المناطق مقارنة بغيرها. إضافة إلى ذلك، إذا كان حتى مليون من
العصبونات لا يستطيع توليد الوعي من دون أن يكون جزءا من شبكات شاسعة vast networks، فإن عبء تحديد هوية المترابطات NCC
يتحول إلى وصف هويّة هذه الشبكات. وعند تفحُّص الاتصالات الدماغية النوعية
لمختلف أشكال الوعي، يخالف <كوخ> بذلك صيغة القرن الحادي والعشرين
للفرينولوجيا(18) phrenology.
إن حماس <كوخ> تجاه القشرة المخيَّة ينبغي أن تحدَّ منه حقيقة أن
العديد من الأنواع الحية (مثل الطيور) لا تمتلك قشرة مخية، مع كونها توصف
بأنها أنواع واعية. وحتى إذا كان مثل هذا التقسيم إلى حُجر compartmentalization ممكنا، فإن ذلك لا يُفسِّر كيف يتولّد الوعي.
[نقطة مقابل نقطة]
كيف يعمل البنج؟(****)
كوخ: يعطي اختصاصيو التخدير (البنج) اليوم مجموعة منوَّعة من الكيمياويات. ومع ذلك فإن جميعها يُبطل الوعي. لقد اعتقد العلماء أن المبنجات تتدخل بانتظام مع ليپيدات lipids في الأغشية الخلوية للعصبونات. ولكننا نعرف الآن أن هذه المركبات تتدخّل في العمليات العصبونية المختلفة عن طريق ارتباطها بپروتينات غشائية مُعيَّنة. ونشير هنا إلى أنه ما من آلية مميَّزة واحدة توقف عمل الوعي. ولكن يُذْكر من بين أهم الأسباب كون البنج يقوِّي التثبيط المشبكي synaptic inhibition أو يقلل الاستثارة المشبكية synaptic excitation في مناطق واسعة من الدماغ. إن الفعالية الدماغية لا تتوقف بالكامل، ولكن مقدرة مجموعات العصبونات على تشكيل ائتلافات مستقرَّة تتداعى بشدة. فحينما لا تستطيع العصبونات التي تكتنف مؤخِّرة القشرة المخيِّة ومقدِّمتها أن تقيم اتصالا متزامنا فيما بينها يصبح الوعي مستحيلا.
گرينفيلد: لا تُطفئ المبنجات أية منطقة دماغية منفردة، بل تُخمِّد الفعالية العصبونية في مناطق مختلفة عبر الدماغ بأكمله. ولذلك تُنْجز المبنجات تأثيرها عن طريق تغيير الخاصِّيَّة المُستَحدَثة للدماغ الشمولي والمتمثِّلة في التجمُّعات العصبونية. فبينما تقلِّلُ المبنجات قد التجمُّعات العصبونية، تقوم بإنقاص درجة الوعي إلى حد إلغائه. ويُفسِّر هذا السيناريو كذلك مراحل الوعي المختلفة التي يمكن أن تحصل أثناء قيام المبنجات بمفعولها، مثل فرط الاستثارية hyperexcitability والهذيان delirium. وقد اقترحت في مكان آخر أن الأشخاص ذوي الأدمغة المصابة بانحطاط وظيفة الاتصالات العصبونية والذين يمتلكون لذلك تجمّعات عصبونية صغيرة، غالبا ما يُبْدون انفعالات جيَّاشة ونقصا في التفكير (وهي أنماط الحالات التي يُبْديها المرضى أثناء مسيرة فعل المبنجات وانكماش تجمّعاتهم العصبونية).
|
ومن وجهة نظري، لا يمكن تقسيم الوعي إلى خبرات متوازية مختلفة. وفي الواقع، إننا نعرف أن التنبيه الإبصاري visual stimulation يمكن أن يتغير بحسب السَّمع، والعكس بالعكس. وهذا المَزْج في المكوِّنات الحسِّية يدحض أفكارا مثل الوعي الإبصاري المنعزل(19).
ولعل الأكثر أهمية هو كونك تعي أو لا تعي. ففي مختبر <كوخ> يظلّ
المفحوصون واعين طوال إجراء التجارب على عصبوناتهم، ولذلك لن يكون الوعي
هو المستهدف في التجارب، بل محتوى ذلك الوعي. فأيّ تفسير تالٍ هو في
الحقيقة انقضاض على جواب السؤال التالي: «ما هو الانتباه attention؟».
صحيح إن هذا السؤال هو سؤال مشروع بالتأكيد، ولكنه سؤال يختلف عن نظيره
القائل «ما هو الوعي؟». إنني أسعى جاهدا لتحديد أفضل المترابطات NCC التي يجب من خلالها توضيح الفرق بين الوعي واللاوعي.
إن افتراضي الخاص الأوَّلي
يتمثل في عدم وجود صفة مميِّزة سحرية حقيقية تخصُّ أيّ منطقة دماغية
مُعيَّنة بحيث تجعلها (أو تجعل مجموعة عصبوناتها) مسؤولة عن الوعي. إننا
ينبغي أن نحدِّد هويّة سيرورة(20) خاصة داخل الدماغ. وكيما تكون هذه السيرورة العصبونية إحدى المترابطات NCC الصميمية، فإنها يجب أن تكون مسؤولة عن تشكيلة منوّعة من الظواهر اليومية، بما في ذلك كفاءة الساعة المنبِّهة(21)، ومفعول المبنجات وتمييز الأحلام من اليقظة، وحصول وعي الذات self-consciousness
والفرق الممكن بين وعي الإنسان ووعي الحيوان، والوجود الممكن للوعي لدى
الجنين. ولعل وجهة النظر الأكثر استحسانا فيما يخص الوعي تتمثل في أنه لا
يتولّد من خاصِّيَّةٍ وَصْفيّةٍ متميِّزةٍ للدماغ، بل من ازدياد كميٌّ في
العمل المجموعي للدماغ. فالوعي يكبر مع كبر الدماغ.
[نقطة مقابل نقطة]
لماذا يوجد فرق ذاتي بين الحلم واليقظة؟(*****)
كوخ: مع أن الدماغ يكون عالي الفعالية في أثناء طور الحركة العينية السريعة للنوم التي غالبا ما تترافق مع الأحلام النشيطة، فإن النمط النَّاحي regional pattern للفعالية الدماغية يتميَّز تماما من نظيره الخاص باليقظة. وبشكل خاص، تكون المنظومة الحَوْفية limbic system (وهي منظومة الانفعالات والذاكرة) نشيطة جدّا، بيد أن أجزاء الفصَّيْن الجبْهيَّيْن المَعْنيَّة بالتفكير تكون مكبوتة. ونشير هنا إلى تَشكُّل ائتلافات العصبونات في الحلم واليقظة كليهما، ولكن هذه الائتلافات تتضمّن عصبونات من أقسام مختلفة من الدماغ. ففي أثناء اليقظة، تتضمّن الائتلافات أعدادا من عصبونات القشرة المخيّة الجبهية أكبر بكثير من نظيرتها في مناطق الدماغ الأخرى، مع العلم بأن عصبونات القشرة المخية الجبهية حيث يحدث التفكير والفهم، تتضافر لترتيب الإدراك، في حين أن هذه الفعالية تنعدم بشكل ملحوظ في أثناء الحلم. وهذه السِّمات تعكس المحتوى الانفعالي القوي والغريب للأحلام.
گرينفيلد: من المرجح ارتباط الأحلام بتجمُّعات العصبونات التي تصغر كثيرا عن نظائرها التي تحصل في حالة اليقظة. وقد تكون هذه التجمُّعات صغيرة لعدم قيام منبهات خارجية قوية بإشراك أعداد كبيرة من العصبونات. فالتوظيف العابر للعصبونات أثناء الأحلام تديره استجابة بحتة لفعالية دماغية ذاتية عفوية. ونظرا لكون التجمعات لا يقدحها أثناء الأحلام مسلسل وقائع تحصل في العالم الخارجي، فإن الروابط بين هذه التجمُّعات تكون عشوائية ومزاجية أو معدومة، بحيث تترك الأحلام بشكل صور أو أحداث اعتباطية. وكذلك يعلِّل الافتقار الواسع إلى الاتصالات العصبونية التشغيلية operational ما يحدث من غياب ملحوظ للضوابط والموازنات التي تميِّز الاستعراف cognition المعهود لدى البالغين في أثناء اليقظة.
|
ولكن، ما هي الآلية العصبونية الرئيسية في هذهِ السيرورة؟ إن محاولة إظهار مترابطة NCC تختص بهذه السيرورة قد أوحتها اكتشافات مختلفة، ومن ضمنها اكتشافات مختصٍّ ألماني بالفيزيولوجيا العصبية هو <W.سنگر> الذي بيَّن أن جماعة ضخمة من العصبونات بين المهاد thalamus والقشرة المخية تضطرم معا بشكل عابر عند التواتر 40
في الثانية. ولكن لما كان النشاط نفسه يمكن أن ينشأ في النسيج المحفوظ
حيّا في طبق المختبر، فإن شرطا إضافيّا لا بد من وجوده كمطْلّبٍ مُقَدَّمٍ(22) للوعي.
وحديثا جدا، اقترح عالم الأعصاب <R.للّيناس>
[من المركز الطبي لجامعة نيويورك] أن هذا الاضطرام العابر المتناسق يفعِّل
عروتين متتامَّتين بين المهاد والقشرة المخية تعملان متضافرتين للحفاظ على
الوعي، هما: منظومة نوعية تخص محتوى الوعي، وأخرى لانوعية nonspecific
تخصُّ انبعاث الوعي ويقظته. إن هذا الوصف يقدم بالفعل تفسيرا للتساؤل عن
سبب قدح كامل الوعي بفعْل المدخول الحسي القوي للساعة المنبِّهة. إضافة
إلى ذلك، فإن نموذج للّيناس يميِّز بين وعي الأحلام ووعي اليقظة. ففي
الأحلام لا يوجد مدخول حسِّيٌّ يغذِّي عروة انبعاث التيقّظ(23)، وبذلك يقتصر الأمر على عمل عروة المحتوى(24).
والمشكلة المركزية تكمن في أن
النماذج التي وصفها <للّيناس> وآخرون تتصوّر الوعي بمثابة حالة «كل
شيء أو لاشيء». إنها تخفق في وصف الكيفية التي يستطيع بها الدماغ المادِّي
احتواء الانحسار والتدفُّق في الحالة الواعية اللذين يتغيَّران باستمرار.
وإنني أستحسن بديلا لذلك: على مدار أكثر من قرن من الزمن، عرف العلماء أن
نشاط عشرات ملايين العصبونات يمكن أن يتواقت synchronize لبضع مئات من الملّيثواني، ثم يَنْفَضُّ في أقل من ثانية. إن هذه التجمعات assemblies من الخلايا المنسِّقة(25) يمكن أن تختلف باستمرار تماما في المكان والدرجات الزمنية لكل خبرة وعي «هنا والآن»(26). وهكذا تتجمَّع وتتفكّك شبكات عصبونات واسعة المدى wide-ranging،
ثم تتجمّع ثانية في ائتلافات متميِّزة تنفرد بها كل لحظة. ونموذجي هذا
يتمثّل في أن الوعي يختلف في درجته من لحظة إلى أخرى وأن عدد العصبونات
الفاعلة داخل تجمّع ما يرتبط بدرجة الوعي الموجودة في أي لحظة مفروضة.
وتلبّي هذه المترابطة NCC
(أي التجمع العابر) جميع مفردات قائمة الظواهر الواردة آنفا. فكفاءة
الساعة المنبِّهة يجري تفسيرها بكونها مدخولا حسيّا نشيطا جدّا يقدح
تجمُّعا متواقتا كبيرا من العصبونات. وكذلك تختلف الأحلام عن اليقظة
بكونها تنجم عن تجمُّع صغير تثيره منبِّهات داخلية صغيرة، في حين تنجم
اليقظة عن تجمُّع كبير تثيره منبهات خارجيةٍ قوية. أما المُبنجات anesthetics فإنها تقيِّد حجم هذه التجمُّعات وبذلك تبعث اللاوعي unconsciousness.
أما وعي الذات فيمكن أن ينشأ فقط في دماغ كبير ومترابط بقدر يكفي لتصميم
شبكات عصبونية واسعة. وكذلك تعتمد درجة الوعي في الحيوان أو في جنين
الإنسان على أحجام تلك التجمعات.
لا حاجة إلى وجود «مركز» لأيَّة وظيفة دماغية معيَّنة، وتقل هذه الحاجة أكثر فأكثر بالنسبة إلى الوعي.
|
جدير بالذكر أنّ كلا منا (المؤلفين) لا يحاول تفسير كيف ينشأ الوعي. فنحن لا نحاول الإجابة عما أطلق عليه الفيلسوف الأسترالي <D.شالمرز>
اسم «المسألة الصعبة»: تحديد الكيفية التي تتم بها ترجمة الأحداث
الفيزيولوجية في الدماغ إلى ما تحياه تحت اسم الوعي. إننا نبحث عن ترابط
ما، أي عن أسلوب يُمكِّن من المضاهاة(27) بين الظواهر الدماغية
والخبرات الذاتية من دون تحديد هوية الخطوة الوسطى المهمة والمتعلقة
بالكيفية التي تُسبِّب بها ظاهرة ما خبرة. فالتجمعات العصبونية لا
«تُكوِّن» وعيّا وإنما قرائن indices
لدرجات الوعي. ولما كان حجم التجمُّع ودرجة الوعي التي تقابله ينجمان عن
تشكيلة منوَّعة من العوامل الفيزيولوجية، مثل درجة الترابطيّة connectivity
وقوة المنبهات وشدة المنافسة التي تبديها التجمّعات الأخرى، فإن كل عامل
منها يمكن تداوله بشكل تجريبي في نهاية المطاف. وإن مقدرة نموذج التجمُّع
على توليد فرضيات يمكن دحضها(28) وتستطيع تفسير تشكيلة متنوعة من الظواهر المرتبطة بالوعي هي ما تجعل منه بالتأكيد نموذجا قويّا على وجه الخصوص.
لقد تمثّل النقد الواضح لنموذج
التجمُّع، حسبما أَفْصَحَ <كوخ> في حوارنا بأُكسفورد، في أنّ هذا
النموذج هو مجرد افتراض أن «القدّ size هو كل شيء.» ولكن في العلم معظمه هو في الواقع «كل شيء عن القياس،» وهذا يعني التكميم quantification
الموضوعي للمشاهدات. فالقدّ هو كل شيء في العلم. ويقول متشككون آخرون: إن
التجمُّعات فكرة غامضة، ولكن بعض الباحثين اكتشفوا التَّوْصيفات(29) المفصَّلة للآليات العصبونية التي تشكل أساس تكوين تجمُّعات تدوم أقل من ثانية (من أمثال <A.كرنفالد> [من معهد وايزمان للعلوم] و<O.باولسن> [من جامعة أكسفورد] و<J.جيفريس> [من جامعة برمنگهام في إنكلترا]).
ولا بدّ أن تنتظر الاختبارات الفاصلة ظهور تقنيات تصوير غير جائرة وذات مَيْز زمني(30) يتناسب مع مقياس زمني timescale
بطول الملّيثواني اللازمة لتشكيل التجمعات العصبونية وانفكاكها. وحالما
تتوافر هذهِ التقنيات سنكون قادرين على مشاهدة التجمُّعات التي ترتبط
بالخبرات الذاتية للألم الاعتلالي العصبي neuropathic وللاكتئاب والفصام، على سبيل المثال. ومع ذلك، فقد شاهد الباحثون نموذج التجمُّع وهو قيد العمل. ففي عام 2006، أظهر <T.كولّنز>
وآخرون من مجموعتي (المتحدث) في أكسفورد أن تَشكُّل التجمُّعات ونشاطها
وديمومتها عند الجرذان ترتبط انتقائيا بعمل المبنجات. وفي وقت مبكر من هذا
العام بيَّن عضو آخر من مجموعتي، هو <S.تشاكراپورتي> ، أن التجمعات في الجهازين الإبصاري والسمعي عند الجرذان يمكن أن تفيد كأساس جيد لتمييز ذاتيةِ(31) الإبصار من ذاتية السمع.
وثمّة انتقادات أخرى تتعلق
بالزمان والمكان. ففي حالة الصرع، على سبيل المثال، يدعم تجمُّع عصبوني
مطوَّل نوبة الصرع التي تتساوى مع فقدان الوعي. ولكن القاسم المشترك بين
جميع التجمُّعات، باعتبارها المترابطات NCC، هو كونها مرحلية عابرة إلى حد كبير. فالنوبة seizure
تعمل كآلية تعطيل تحول دون تلك المرحلية (أو سرعة الزوال)، وبذلك تسمح
لتجمع واحد أن يدوم فترة تطول أمثالا عديدة. وبالمثل، اقترحتُ مع
<كولّنز> و<M.هيل> و<E.دوميت> في ورقة علمية حديثة إمكان قيام المبنجات أيضا بدور آلية تعطيل.
وهناك مجال آخر للاعتراض يتمثّل في أن نموذج التجمُّع لا يتّصف بأيَّة خواص مكانية(32). فلا يوجد موضع تشريحي محدّد. ولكننا كثيرا ما نوكل أهمية كبيرة للتموضع localization كنهاية في حدِّ ذاته. فلا حاجة إلى «مركز» مسؤول عن أي وظيفة دماغية معيَّنة، وأقل من ذلك بكثير من أجل الوعي.
ولعل السيناريو الأجدر بالتصديق يتمثّل في أن مناطق دماغية مختلفة، في تجمُّعات مرحلية إلى حد كبير، تتقارب(33) كمدخولات لمنظور زمكاني space-time manifold.
وتتمثل الصعوبة الراهنة في أننا لا نستطيع توصيف منطوٍ كهذا باستخدام
التقنيات التجريبية الحالية. وقد يستطيع المنطوي في نهاية المطاف نمذجته
رياضياتيّا. ويمكن أن تكون مثل هذه النماذج وتآثراتها هي السبيل أمامنا.
وثمّة مشكلة أخيرة، وهي تنطبق على المترابطات NCC
على المستوى الأساسي، وتتمثل في كيفية تسخير هذه المترابطات لمعالجة
المسألة الصعبة التي تتلخص في تحديد الكيفية التي تجري فيها ترجمة الأحداث
الفيزيولوجية في الدماغ إلى ما نعيشه وعيّا. ولن نكون في موقف الوصول إلى
حَلٍّ قبل معرفة نوع الدليل الذي يرضينا: هل هو مسح دماغي brain scan؟ أم إنسالة(34)
(روبوط)؟ أو ربما تغيُّر محرَّضٌ في الحالة الذاتية للمرء على شاكلة
التأثير في دماغ <كوخ>، بحيث إن هذا الأخير يحيا العالم مثلما
أحياه، وحتى إنه يتفق معي.
[/center]