الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واعترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ــــ
توفيق عمروني
الحمد لله ربِّ العالمين؛ وبعد:
إنَّ
ممَّا لا يستريب فيه أحدٌ أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة تمرُّ بحقبة زمنيَّة
لا تُحسد عليها البتَّة، لما اعتراها من الضّعف والذِّلَّة والهوان أمام
أمم الكفر والطُّغيان وعبَّاد الصُّلبان، حتَّى كدنا نلمس ذلك لمس اليد،
ويشعر به أحدنا وهو في بيته بين أهله وأولاده، ويجد لذلك غصَّة لا يستلذُّ
معها نومًا ولا طعامًا، ولم يعد يحلو معها لذَّة ولا حياة، فلا تطلعك
الأخبار يومًا بعد يوم إلاَّ عن تعدٍّ أثيم على بلد من بلاد المسلمين، أو
سلبٍ لخيراتهم وممتلكاتهم نهارًا جهارًا، أو تقتيلهم وترويعهم واضطهادهم
ظلمًا وعدوانًا، أو نفث روح الاختلاف والتَّنازع والتَّقاتل والتَّناحر
بينهم مكرًا وخداعًا، في سلسلة طويلة من الأخبار الفاجعة والصُّور المؤلمة.
وصار
المسلمون عرضةً للإهانة ومثلا للشَّماتة، ولم يعدْ يُخشى لهم جانبٌ، ولا
يبالي بهم عدوٌّ ولا صاحبٌ، وما ذاك إلَّا لأنَّ الأمَّة التي شرَّفها
الله بأكمل دين وأفضل نبيٍّ قد قَصَّرت في الأخذ بسبب العزِّ والتَّمكين،
وتخلَّت عن طريق الرُّشد والهداية، وسلكت سُبلاً مختلفة عن سبيل الله
فألقت بهم في أودية الغيِّ والرَّدى، وباتت الدُّنيا أكبر الهمِّ على
النُّفوس، وخفتت شعلةُ الإيمان في القلوب، وصار النَّاس أكثر إيمانًا بما
يرون ويشاهدون من الإيمان بما أُخْبِروا به عن طريق الوحي من الغيوب،
وكأنَّهم لم يسمعوا إلى ربِّهم وهو يَعِدُهم الوعود الكثيرة من أنَّ
سعادتهم في الدُّنيا والآخرة منوطةٌ بتحقيق الإيمان، قال الله تعالى: +وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)_ [آل عمران: 139]، وقال تعالى: +وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ_ [المنافقون: 8]، وقال تعالى: +إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)_ [غافر: 51]، وقال تعالى: +فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)_ [الصف: 14]، وقال تعالى: +وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)_ [آل عمران: 68]، وقال تعالى: +وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)_ [الأنفال: 19] ، وقال تعالى: +وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)_ [النساء: 141]، وقال تعالى: +إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا_ [الحج: 38].
فهذه
الآيات ضمانٌ من الله تعالى لمن حقَّق الإيمان الَّذي أمر الله به رسوله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - علمًا وعملاً وحالاً، أن يحقِّق له العلوَّ
والعزَّة والنُّصرة والتَّأييد وولايته له ومعيَّته ودفاعه عنه في كلِّ
الأزمنة وجميع الأمكنة، فبقدر ما يكون في الأمَّة من الإيمان يكون حظُّها
ونصيبُها من هذِه الأمور، فإذا ضعُفت حقائقُ الإيمان وواجباتُه علمًا
وعملاً، ظاهرًا وباطنًا، هَزُلت الأمَّة وذهبَ علوُّها وعزُّها، ولم
يحالفها النَّصر والتَّأييد، ولم تَحْظَ بحفظ الله وعنايته وولايته،
وفاتها دفاعُ الله عنها.
فمن
أراد لهذه الأمَّة أن تستعيد مجدها وسموَّها، وتستردَّ رِيادَتَها
وعافيتَها، فليدعُ أفرادَها ليأخذوا بالإيمان ويتحلَّوْا به علمًا وعملاً
وحالاً، وأنَّ أيَّ سَعْيٍ لتحقيق المجدِ والرِّفعة على غير هذا المهيع
القويم فهو سعي وراء السَّراب، ولن يجني صاحبُه غيرَ العذاب، وتأخيرَ
النَّصر أحقابًا أخرى.
وليُعلم
أنَّ من ظنَّ أنَّه حقَّق الإيمانَ ثمَّ لم يجد هذه الثِّمار الموعودِ
بها، فليرجع على نفسِه باللَّوم والعِتاب؛ لأنَّه ليس أحد أصدق من الله
قيلاً ولا أوفى منه عهدًا، وسنن الله لا تتبدَّل ولا تتحوَّل؛ والواجبُ
الَّذي لا يجوزُ غيرُه إساءةُ الظَّنِّ بالنَّفس وحسن الظَّنِّ بالله -
عزَّ وجلَّ -؛ وأنَّه إنَّما أُتِيَ من جهتين:
-
إمَّا أنَّه قصَّرَ في بعض حقائق الإيمان الظَّاهرة والباطنة، من ترك واجب
أو ارتكاب منهيٍّ، فكثيرٌ من النَّاس قد لا يُقَصِّر في شيء من أعمال
الإيمان الظَّاهرة بالجوارح من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك؛ لكنَّه يُخِلُّ
إخلالاً كبيرًا بأعمال الإيمان الباطنة القلبيَّة الَّتي هي أوجب من
الأولى، فتجده يقدِّم على حبِّ الله تعالى غيرَه، ويرجو سِواه، ويخاف من
دونه من خلقه، ولا يتوكَّل عليه ...، فهذا لم يحقِّق الإيمان الَّذي
يستحقُّ به تلك العطايا، حتَّى يداويَ ما به، ويتداركَ الأمرَ قبل فواتِه.
-
وإمَّا أنَّه قصَّرَ في معرفة حقائق الإيمان التي جاء بها الرسول - صلَّى
الله عليه وسلَّم -، فيُدخِلُ في الإيمان ما ليس منه، ويخرج منه ما هو من
صميمه، فيُعَظِّم ما حقَّره الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -،
ويحقِّر ما عظَّمه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، ويوالي من
يستحقُّ المعاداة ويعادي من يستحقُّ الموالاة، وغير ذلك من المخالفات
لشريعة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فهذا أيضًا أنَّى يكون له
النَّصر والتَّأييد؛ لأنَّ الله لا ينصر صاحب الباطل ولو اعتقد صاحبُه
أنَّه على حقٍّ، وما يحصل له من الغلبة والقهر فإنَّما هو نصرٌ متوهمٌ
مآله إلى ذلٍّ وهوانٍ، لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي».
وبهذا
يتبيَّن لك - أخي القارئ - أنَّ الإيمان المطلوب تحقيقه يقوم على ساقين:
ساق الإخلاص لله تعالى، وساق المتابعة لرسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم -.
نسأل الله تعالى حسن الختام، والموت على الإيمان.