الحمد لله نحمده ونشكره ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ..
.. ومن سيئات أعمالنا .من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
...و أشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك له .وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
.. صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين .ومن تبعهم بالإحسان الى يوم الدين
.. أما بعد ..
.. فإن أصدق الحديت كلام الله وخير الهدى, هدى محمد صلى الله عليه وسلم ..
.. وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ..
.. فاللهم أجرنا وقنا عذابها برحمتك يا ارحم الراحميـــــــــــــــن
يا أمة محمد : الإيمان قبل القرآن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
يعجب الإنسان من حاله بأنه يعرف كثيرا من أومر الله ومع
هذا يفرط فيها ، وكثيرا من نواهيه ثم ينغمس فيها ، ونؤمن جميعاً بشؤم
المعصية في الدين والدنيا معاً ثم نعجز عن مدافعة هوى النفس ؛
فهل لهذا من سبب ؟؟
هذه مسألة جليلة كبيرة القدر جداً ، قد خفي على بعضنا
خصوصا من والدعاة والمربين وجه الصواب فيها ، فوقعوا في خلاف منهج النبي
صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه رضي الله عنهم .
ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه القرآن
هو تعليم الإيمان أولاً قبل تعليم الأحكام ، وهي داخلة ضمن القاعدة
المشهورة عند السلف في التعليم ( العلم الرباني : هو الذي يربي الناس
بصغار العلم قبل كباره) ، وقد جاء في تعليم الإيمان قبل الأحكام آثار
مشهورة :
فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع النبي
صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم
القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : تعلمنا الإيمان
ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً ، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون
الإيمان .
وعنه قال : لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى
الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم
حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم
اليوم القرآن ، ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان
فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن
يقف عنده منه .
وفي لفظ عنه قال : إنا كنا صدور هذه الأمة وكان الرجل من
خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحيهم ما يقيم إلا سورة من
القرآن أو شبه ذلك ، وكان القرآن ثقيلا عليهم ، ورزقوا علما به وعملا ، وإن
آخر هذه الأمة يخف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون منه
شيئاً.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن
فعلموا من القرآن وعلموا من السنة " متفق عليه
قال ابن تيمية : والأمانة هي الإيمان أنزلها في أصل قلوب الرجال .
ويقرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام ماتعٍ له في بيان حقائق الدين ، ويستشهد لذلك بآياتٍ من كتاب الله ، منها :
قوله تعالى : {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} (17) سورة هود .
فالبينة من الله هي الإيمان ، والذي يتلوه هو شاهد القرآن .
وقوله تعالى : وفي آية النور {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} (35) النــور.
النور الأول هو نور الإيمان والذي يأتي بعده هو نور القرآن .
يقول رحمه الله :
" فتبين أن قوله {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} (17) سورة هود ، يعنى هدى الإيمان ، {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي من الله يعنى القرآن ، شاهد من الله يوافق الإيمان ويتبعه وقال : {وَيَتْلُوهُ} لأن الإيمان هو المقصود ، لأنه إنما يراد بإنزال القرآن الإيمان وزيادته .
قال : ولهذا كان الإيمان بدون قراءة القرآن ينفع صاحبه
ويدخل به الجنة ، والقرآن بلا إيمان لا ينفع في الآخرة بل صاحبه منافق ،
كما فى الصحيحين عن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : مثل
المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ، ومثل المؤمن
الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها .. ) الحديث ".
وقال رحمه الله : " وقال بعضهم فى قوله {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} قال : نور القرآن على نور الإيمان كما قال : {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} (52) سورة الشورى ، وقال السدي فى قوله {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه".
وقال : " ولهذا دخل في معنى قوله خيركم من تعلم القرآن
وعلمه تعليم حروفه ومعانية جميعا بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم
حروفه وذلك هو الذي يزيد الإيمان كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله ابن
عمر وغيرهما تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وإنكم تتعلمون
القرآن ثم تتعلمون الإيمان"
فإن سألت : ما الإيمان الذي نتعلمه اولاً قبل الأحكام ؟
فالجواب : هو أوائل ما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وهو أوائل ما نزل من القرآن .
فالإيمان الذي تكرر ذكره والتأكيد عليه في ابتداء دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم هو ثلاثة أقسام :
الأول : الإيمان بالله [ ربوبيةً وألوهيةً وأسماءً وصفات ] .
الثاني : الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : الإيمان بالبعث لليوم الآخر .
فإن قيل : وكيف نتعلم هذا الإيمان ؟
قيل : من طريقين :
الأول : بالتفكر في آيات الله المرئية ، وهذا له محلٌّ آخر غير هذه الرسالة .
الثاني : بالتفكر في أوائل ما نزل من الآيات المتلوة ، التي غرست الإيمان كالجبال في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد جمعهما الله سبحانه في أوّل ما نزَّل على نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} العلق
.
فجمع له بين القراءة باسم الله ، وبين التذكير بنعم الرب على عباده .
فإن قلتَ : قد قرأنا أوائل ما نزل بل وحفظناه ولم نرَ أثر ذلك في إيماننا .
فالجواب ــ يا أخا القرآن ــ : أننا لم نأخذ القرآن كما أخذوه .
فإن سألت : عن طريقة أخذهم للقرآن ؟
فأقول : اعلم ــ وفقك الله لهداه ــ
أن القرآن تنزيلُ رب العالمين ، وهو كتاب عظيمٌ {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} (67) سورة ص ، وثقيلٌ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} (5) سورة المزمل ، بل بلغ الغاية في الإعجاز وشدة التأثير {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي لكان هذا القرآن قاله قتادة والفراء وابن قتيبة وابن عطية وابن كثير والسَّعدي وغيرهم.
وقد أدرك سلفنا الصالح هذه المسألة ، فهذا مالك يُسأل عن
مسألة فقال : لا أدري ، فقيل له : إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال: ليس
في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا}
ولذا كانوا يأمرون بأن يُؤخذ القرآن كما نزل متدرجاً ، ويحذرون من ضده أشد التحذير ، لأمور منها :
لأن ذلك لا يُستطاع أبداً لعظم القرآن وثقله كما سبق .
ولأن أخذه كما نزل يُثبت الفؤاد {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا}
(32) سورة الفرقان .
ولأن أخذه متدرجاً يُوطِّن النفس على قبول ما يأتي بعد
الآيات الأول من الشرائع والحلال والحرام ، كما أخرج البخاري في صحيحه عن
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت :
” إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة
والنار حتى إذا ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا
تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع شرب الخمر ، ولو نزل أول شيء : لا تزنوا
لقالوا : لا ندع الزنا ، وإنه أنزلت(وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (46) القمر ، بمكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني جارية ألعب ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" .
وهذا الوصف منها رضي الله عنها لبيان أثر المنهج الذي
تنزّل به القرآن من أعظم ما يكون خطراً على من خالفه ولم يلتفت إليه ، فإن
قولها (ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع شرب الخمر ...)
بيان لحال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نهي الله ورسوله ، فالآمر
هو الله والمبلغ رسول الله والمأمور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ثم بعد هذا ــ لو أن منهج التدرج في تنزّل القرآن خُولف ــ يكون الرد (لا
ندع شرب الخمر ، لا ندع الزنا) .
فما بالك بجواب غيرهم من بقية الأمة حين يُقال لهم أولاً
(لا تشربوا الخمر ، لا تزنوا ، لا تفعلوا كذا وكذا ) ؛ الجواب نراه عياناً
بياناً في موقف الأمة من أومر ربها وأوامر رسولها صلى الله عليه وسلم ،
ولاشك أن هذا ليس هو السبب الأوحد ، لكنه سبب رئيس لابد من التفطن له .
فإن قائل قائل : فما المنهج الذي تعلّم وعلِّم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه القرآن ؟
فالجواب : هو البدء بالمفصل أولاً .
وهو الذي ذكرته عائشة في الحديث السابق حين قالت : ( إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ) .
وحين قالت : "وإنه أنزلت (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (46) القمر ، بمكة على رسول الله وإني جارية ألعب ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده " .
وهذا هو منهج الصحابة :
ففي مصنف عبد الرزاق : أن عمر كان لا يأمر بنيه بتعليم القرآن ، ويقول : إن كان أحد منكم متعلماً فليتعلم من المفصل فإنه أيسر.
وفي صحيح البخاري (باب تعليم الصبيان القرآن) : عن سعيد
بن جبير قال : إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم ، قال : وقال بن عباس رضي
الله عنهما : جمعت المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له :
وما المحكم ؟ قال : المفصل .
وقال رضي الله عنهما: تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم.
فابن عباس حين بدأ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالمفصل (المحكم) .
فالبدء بالمفصل له ميزات عدّة منها ما يلي :
أنه هو الذي يغرس الإيمان في القلب كأمثال الجبال .
وهذا هو الذي أشارت إليه عائشة في الحديث السابق حين
قالت : ( لقد نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا
ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام) .
فسور المفصل هي التي تجعل القلب يثوب ويطمئن بالإيمان
فإذا جاء الحلال والحرام بعد ذلك كان السمع والطاعة لرب العالمين ولرسوله
الأمين .
وبين أيدينا شاهد حيٌ لا يغيب وهم الصحابة من السابقين
الأولين حين زكّت نفوسهم هذه الآيات العظيمة من هذا الكتاب العظيم ، حتى
أصبح الإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي .
وتأمل معي هذه السور التي هي من أوائل ما نزل من القرآن
باتفاق أهل التفسير ، تأملها سورةً سورة ولا تعجل ــ شرح الله صدرك
بكتابه ــ :
سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
سورة {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}
سورة {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}
سورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}
سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
سورة {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}
سورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}
وغيرها ...
فتأمل مالذي تغرسه هذه السور في القلب لو قرأناها وفهمناها كما يريده الله منّا ؟
الأمر عظيم جليل ، فتدبر فيما نزلت ، وفقك الله لهداه .
ومما ينبغي التنبيه عليه في مثل هذا الموطن أن حزب المفصل من كتاب الله جاء لتقرير ثلاث حقائق :
توحيد الله في ربوبيته وألوهيته .
إثبات البعث والدار الآخرة .
الأمر بمكارم الأخلاق .
وبيان هذا وذكر أدلته من الكتاب والسنة ثم من كلام أهل
العلم ليس هذا محلّه ، وإنما أردت الإشارة إليه ، لعل قارئ المفصل يُفيد
منه في حين تدبره لهذا الحزب من القرآن .
أنه أيسر في الفهم لأنه محكم ليس فيه متشابه إلا ما ندر .
وقد سبق قول عمر : إن كان أحد منكم متعلماً فليتعلم من المفصل فإنه أيسر .
وقول ابن عباس : جمعت المحكم في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فقيل له : وما المحكم ؟ قال : المفصل . فهو محكم ظاهر ،
بخلاف غيره من القرآن ففيه متشابه .
وأخرج الدارمي وغيره عن ابن مسعود قال : إن لكل شيء
سناماً وإن سنام القرآن سورة البقرة ، وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن
المفصل .
أفيُبتغى الوصول للسّنام العالي قبل الُّلباب الداني ؟!
د. عصام بن صالح العويد