الايثار على النفس
لو
أدرك الناس في جميع أنحاء العالم مقاصد الإسلام السامية، التي هي إنما
تعود عليهم بالسعادة والاستقرار النفسي، لاعتنقوه، ولتمثَّلوه عقيدةً
وسلوكاً وفكراً.
ولو أدرك دعاة التحرُّر لذَّة السَّكن النَّفسي
الذي ينعَمُ به المسلمون الحقيقيون، الذي إنما هو رحيقُ العبادة، لجابوا
القِفار والتلال، ولتجشَّموا المصاعب في سبيل معرفة أركان هذا الدين
وآدابه، ورياضه الزاهرة.
الإسلامُ حياةٌ سعيدةٌ بما يحمل في طياته من سُموٍّ في العلاقات، ونُكرانٍ للذَّات، وانخراطٍ في الجماعة.
إن
حياةً يؤثرُ الناسُ فيها غيرهم على أنفسهم، لهي حياةٌ سعيدة بكل المقاييس
والمعايير؛ لأن القيم المتبادلة هي غذاء الروح الشفيفة، والنفس الرهيفة.
فهذا
هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يَضرِبُ أروع الأمثلة في الإيثار،
وحُبِّ الآخرين، وهذه سجيَّة من سجاياه الحميدة - صلى الله عليه وسلم -
تلازمه ملازمة المشرق لطلوع الشمس، وملازمة النور للقمر.
إنها مواقف
كثيرة سأستعرضُ منها موقفاً، والبلاغة في الإيجاز، تبدأ أحداث هذا الموقف
عندما اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصاً من أحد الحوانيت، ولدى
خروجه استوقفه رجلٌ من الأنصار؛ فخاطبه قائلاً: يا رسول الله، اُكسُني هذا
القميص. فلم يتردَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلع القميص، وإعطائه
للرجل الذي طلبه..
عاد النبي من جديد؛ فاشترى قميصاً آخر، ولم يبقَ
معه سوى درهمين، وعندما خرج من الحانوت إذا بجاريةٍ (خادمة) تبكي؛ فقال:
لماذا تبكين أيتها الجارية؟ قالت: أعطاني أهل البيت الذين أعمل عندهم
درهمين؛ لأشتري لهم طحيناً؛ فأضعتُ الدرهمين.
فقال لها النبي الرحيم صاحب القلب الرقيق والنفس السمحة واليد الحانية: ((خُذي هذين الدرهمين وعودي لأهلك)).
ذهبت
البنت تحمل الدرهمين وهي تبكي فتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم -
مسائلاً إياها: ولم تبكين ؟ قالت: أخشى أن يضربوني. فقال: لا عليك، وذهب
معها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حيثُ تعمل فسلَّم على أهل البيت،
وأخبرهم بقصَّة الخادمة، فسعِدوا كثيراً بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم -
إليهم، وإكراماً لقدومه أعفَوا أمَتَهم الخادمة من العمل لتصبح حرَّة
طليقة.
هذه لمسةٌ حانية، وومضة من ومضات الإنسانية، التي إنما
تستمدُّ قيمتها ونورها من تشريع الإله العزيز الحكيم، الذي ارتضى محمداً -
صلى الله عليه وسلم - رسولاً ومبلغاً لهذه الرسالة السماوية السمحة، التي
إنما تحمل في طيَّاتها ترياقَ النفوس، وبلسمَ الأرواح، ونورَ الأفهام.