[center]بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفات مع القرآن وشموليته
عناصر الموضوع:
♦ الوقفة الأولى: بيان فضْل القرآن ووصْفه ومنزلته.
♦ الوقفة الثَّانية: بيان وجوب تدبُّر القرآن الكريم.
♦ الوقْفة الثَّالثة: بيان شموليَّة القرآن الكريم.
الوقفة الأولى: بيان فضل القرآن ووصفه ومنزلته:
القرآن الكريم:
هو
كلام الله المنزل على رسوله محمَّد - صلى الله عليْه وسلَّم - المتعبَّد
بتلاوته، المتحدَّى بأقصر سورة منه، المنقول إلينا نقلاً متواترًا،
المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور.
هذا القرآن هو الكتاب المبين الَّذي ﴿ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وهو المعجِزة الخالدة الباقية المستمرَّة على تعاقُب الأزمان والدّهور، إلى أن يرِثَ الله الأرض ومَن عليها.
وهو حبْل الله المتين، والصِّراط المستقيم، والنّور الهادي إلى الحقّ، وإلى الطَّريق المستقيم،
فيه نبَأ ما قبلكم، وحُكْم ما بيْنكم، وخبَر ما بعدكم، هو الفصْل ليْس
بالهزْل، مَن ترَكَه من جبَّار قصمه الله، ومَن ابتغى الهُدَى في غيرِه
أضلَّه الله، مَن قال به صدَقَ، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه فقد هُدِي
إلى صراطٍ مستقيمٍ.
هذا القرآن: هو
وثيقة النبوَّة الخاتمة، ولسان الدِّين الحنيف، وقانون الشَّريعة
الإسلاميَّة، هو قدْوتنا وإمامنا في حياتِنا، به نهتدي، وإليه نَحتكِم،
وبأوامِرِه ونواهيه نعمل، وعند حدوده نقِف ونلتزم، سعادتنا في سلوك
سُنَنه، واتِّباع منهجه، وشقاوتنا في تنكُّب طريقه والبعد عن تعاليمه، وهو
رباطٌ بين السَّماء والأرْض، وعهدٌ بين الله وبين عباده، وهو منهاج الله
الخالد، وميثاق السَّماء الصَّالح لكلِّ زمان ومكان، وهو أشْرف الكتب
السَّماويَّة، وأعظم وحْيٍ نزل من السَّماء.
وباختصار، فإنَّ كلام الله - سبحانه وتعالى - لا يُدانيهِ كلام، وحديثُه لا يشابههُ حديث؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87].
ولقد رفع الله شأنَ القرآن، ونوَّه بعلوِّ منزلتِه؛ فقال سبحانه: ﴿ تَنْزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ﴾ [طه: 4]، كما وصفه - سبحانه وتعالى - بعدَّة أوْصاف مبيِّنًا فيها خصائصَه الَّتي ميَّزه بها عن سائِر الكتُب
[1].
فمِن ذلك:
قوله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155].
قال
العلامة ابن سعدي - رحمه الله -: "القرآن العظيم والذِّكْر الحكيم فيه
الخير الكثير، والعلم الغزير، وهو الَّذي تستمدّ منه سائر العلوم، وتستخرج
منه البركات، فما من خير إلاَّ وقد دعا إليه ورغَّب فيه، وذكر الحِكَم
والمصالِح الَّتي تحثُّ عليه، وما من شرٍّ إلاَّ وقد نَهى عنه، وحذَّر
منْه، وذكَر الأسباب المنفِّرة منه ومن فعلِه وعواقبها الوخيمة، فاتَّبعوه
فيما يأمُر به وينهى، وابْنُوا أصولَ دينِكم وفروعه عليْه"
[2].
وقال
الإمام ابن كثير - رحمه الله -: "فيه الدَّعوة إلى اتِّباع القرآن، يرغِّب
- سبحانه - عباده في كتابه ويأمرهم بتدبُّره والعمل به والدَّعوة إليه،
ووصفه بالبركة لِمَن اتَّبعه وعمل به في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّه حبل
الله المتين"
[3].
وقوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].
وصف
الله كتابه هنا بصفات كثيرة؛ وهي: التِّبيان، والهُدى، والرَّحمة،
والبُشرى، فالقرآن الكريم تبيانٌ وبيان تامّ لكلّ ما يحتاجه الإنسان في
مسيرتِه في الحياة الدنيا، من عقيدةٍ صحيحة، وسلوكٍ قويم، وشريعةٍ محْكمة،
فلا حجَّة بعده لمحتجّ، ولا عذر لمعتذِر، فلا عقيدة أو سلوك أو شريعة
يَرضاها الله إلاَّ ما جاء فيه، ولا صلاحَ للفرد والجماعة إلاَّ بهذه
العقيدة والعبادة والسُّلوك، والشَّرع والحكم الإلهي التَّامّ الكامل
المنزَّه عن الشبهات والهوى، فالله - سبحانه - الَّذي خلق الإنسان، وهو من
يبين له ذلك وحدَه، ففيه بيان الأصول والعقائد والقواعد لكلّ شيء، وفي
سننه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - التفصيل والشَّرح
[4].
هذه بعض أوْصاف القرآن الواردة في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - فالقرآن يتحدَّث عن نفسِه فيها بأجْلى صورة وأوضح بيان.
أمَّا السنَّة النبويَّة فحديثها عن القرآن ووصفها لآياتِه، وبيان فضْلِه وعلوّ منزلته، فالنصوص فيها كثيرة، منها:
ما
رواه الإمام مسلم في صحيحه عن زيدِ بن أرقم - رضِي الله عنْه - أنَّ رسولَ
الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - خطب، فحمِد الله وأثْنَى عليه، ثمَّ
قال: ((أمَّا بعد، ألا أيُّها النَّاس، فإنَّما أنا بشَر يوشِك أن
يأتِيَني رسولُ ربِّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أوَّلُهما كتابُ
الله؛ فيه الهدى والنور، فخُذوا بكتاب الله، وتمسَّكوا به))، فحثَّ على
كتاب الله ورغَّب فيه، ثمَّ قال: ((وأهل بيْتي))، وفي لفظ: ((كتاب الله هو
حبْل الله المتين، من اتَّبعه كان على الهُدى، ومَن ترَكَه كان على
الضَّلالة)).
وروى
ابنُ حبان في صحيحه، عن أبي شريح - رضي الله عنه - قال: خرج عليْنا رسول
الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال: ((أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله
إلاَّ الله، وأنِّي رسول الله؟)) قالوا: نعم، قال: ((فإنَّ هذا القرآن
طرفُه بيد الله وطرفُه بأيديكم، فتمسَّكوا به، فإنَّكم لن تضلُّوا ولن
تهلكوا بعده أبدًا)).
وروى
مسلم من حديثِ عُمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه - أنَّ النَّبيَّ -
صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا
ويضع به آخرين)).
كلّ هذه النصوص تبيِّن لنا فضائل هذا القرآن العظيم وتعلي شأنه ومكانته؛
لأنَّه كلام الله وحْده سبحانه، وصَفهُ منزلُه بكلِّ كمال، وجعل في تلاوته
المهابة والجلال، وجعله أيضًا أساس الشَّريعة الإسلاميَّة، وجعله مصدر
الأحكام الشَّرعيَّة، والمسائل الفقهيَّة، فهو الكتاب الحقّ الَّذي عليه
مدار سعادتِنا في أمر دينِنا ودنيانا
فقال: ديني ودين آبائي، وانصرف.
إنَّ
من الواجب على كلّ مسلم أن يتدبَّر هذا القرآن العظيم، وأن يتفهَّم آياتِه
ومعانيَه، وأن يعيش معه برُوحه وفِكْره ووجدانه؛ كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقال أيضًا: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
قال العلامة ابن سعدي - رحِمه الله -:
"أي: فهلا يتدبَّر هؤلاء المعرضون القُرآن كتاب الله، ويتأمَّلونه حقَّ
التَّأمُّل، فإنَّهم لو تدبَّروه، لدلَّهم على كلّ خير، ولحذَّرهم من كلِّ
شرّ، ولملأ قلوبَهم من الإيمان، وأفئِدتَهم من الإيقان، ولأوْصلَهم إلى
المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطَّريق الموصّلة إلى
الله، وإلى جنَّته ومكملاتها، ومفسداتها، والطَّريق الموصّلة إلى العذاب
وبأيّ شيءٍ تُحْذَر، ولعرَّفهم بربِّهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه،
ولشوَّقهم إلى الثَّواب الجزيل ورهَّبهم من العقاب الوبيل"
[6].
ولا
يَخفى عليْنا ما للتدبُّر من آثارٍ وفوائد، وقد كان رسولُ الله - صلَّى
الله عليْه وسلَّم - يتدبَّر القرآن، ويردِّدُه وهو قائم باللَّيل، حتَّى
إنَّه في إحْدى اللَّيالي قام يردِّد آيةً واحدةً من كتاب الله، وهو
يصلِّي لَم يُجاوزْها حتَّى أصبح، وهي قوله تعالى: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118] رواه أحمد، وهذا يدلّ على وجوب تدبُّر القرآن الكريم ومُعايشة آياتِه، وفهْم معانيه وما تدْعو إليْه.
والقرآن فيه توْحيد، ووعْد ووعيد، وأحكام وأخبار، وقصص وآداب، وأخلاق وآثارها في النَّفس متنوّعة.
وقد
كان صحابة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقرؤُون ويتدبَّرون
ويتأثَّرون، وكان أبو بكر - رضِي الله عنْه - رجُلاً أسيفًا رقيقَ القلب،
إذا صلَّى بالنَّاس وقرأ كلام الله - تعالى - لا يتمالَكُ نفسَه من
البكاء، ومرض عُمر - رضِي الله عنْه - من أثر تلاوة قوْل اللَّه تعالى: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8].
وقال
عثمان بن عفَّان - رضي الله عنْه -: "لو طهرتْ قُلوبُنا ما شبِعَت من كلام
ربِّنا"، وقُتِل شهيدًا مظلومًا ودمُه على مصْحفه، وأخبار الصَّحابة في
هذا كثيرة.
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمطلوب من القُرآن هو فهْم معانيه والعمل به،
فإن لم تكُن هذه همَّة حافظه لم يكُن من أهل العلم والدين"، وصدق القائل:
نسأل الله - تعالى - أن يجعل القُرآن ربيعَ قلوبِنا، ونورَ صدورنا، وجلاء أحزانِنا، وذَهاب همومِنا وغمومنا، اللَّهُمَّ آمين.
الوقفة الثالثة: بيان شمولية القرآن الكريم:
لقد تميَّز كتاب الله تعالى بصفاتٍ وخصائص لم تكُن لكتابٍ سماويٍّ سواه، فمِن هذه الخصائص:
♦ التَّيسير، للتِّلاوة والحفظ والفهم والعمل.
♦ الإعجاز بكلِّ أنواعه: البلاغي، والتَّشريعي، والموضوعي، والعلمي.
♦ الخلود على مرِّ العصور والأجيال.
♦ الشُّمول لكلّ مناحي الحياة الإنسانيَّة؛ فهو كتاب الدّين كلِّه والدُّنْيا أيضًا.
ولنقفْ هنا وقفة بسيطة مع الخصِّيصة الخامسة، ألا وهي شموليَّة القرآن.
شمولية القرآن:
لَم
يقف القرآن الكريم عند واحدٍ من الجوانب الإنسانيَّة، بل إنَّه تحدَّث
بشموليَّةٍ إعجازيَّةٍ بديعةٍ عن كلّ الجوانب الَّتي يحتاج إليها الإنسان،
وخاصَّة في الجوانب الدينيَّة والتَّعبُّديَّة؛ لأنَّها مجالات متعدِّدة؛
لذلك شملها القرآن في ثنايا حديثه وآياته:
الشمول العقدي:
يتمثَّل
هذا الشّمول ببيان حقيقة توحيد الله - سبحانه وتعالى - بصورة واضحة، وذلك
ببيان ذاته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وبيان سائر أركان الإيمان
الستَّة: الإيمان بالله وملائكته وكتُبه ورسُله واليوم الآخر والقضاء
والقدر.
كما يتمثَّل بربْط الكون والإنسان والحياة بالله - سبحانه وتعالى -
ومن ثمرات هذا الشّمول أنَّ الإنسان يشعر برقابة الله - تعالى - له في
جميع أقواله وأفعاله، فيولد في نفسه عنصر النَّقد الذَّاتي والمحاسبة
الذَّاتيَّة، وبالتَّالي فالمسلم يخلص في عمله، ويخلص في عبادته ويلتزم
بأوامر الله ويَجتنب نواهيه.
الشمول التشريعي:
يتضمَّن
القرآن الكريم تشريعًا كاملاً لمختلف مناحي الحياة، فيشمل: العبادات،
والمعاملات، والعقوبات، والسياسة الخارجية، ومعاهدات السِّلْم والحرب
والحياد، وسائر الأنظِمة الَّتي يقوم عليها المجتمع، ويتَّصف هذا
التَّشريع القرآني بصفَتين رئيستَين، وهما: العموميَّة والديمومة
[7].
ولهذا؛
جعله الله للنَّاس كلّهم وللعالمين دستورًا هاديًا وشافيًا، وجعله خالدًا
دائمًا على مرّ الزَّمان والأجيال، فالقرآن دستورٌ شامل، وصَفَه منزِّله -
وهو ربّ العالمين - بأنَّه تبيانٌ لكلّ شيء، فقد خاطب الرَّسول المنزَّل
عليه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بقوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].
وقد قال الخليفة الأوَّل: "لو ضاع منّي عقال بعيرٍ لوجدتُه في كتاب الله".
ومن
هنا يتَّضح لنا كمال القُرآن في هدايتِه وشموله، وعظمة بلاغته وأسلوبِه؛
ولذا فإنَّ عليْنا دوام تلاوته وفهْمه مع كون العمل به من آكد فرائضِه.
الشمول الخطابي للنفس الإنسانيَّة:
ومعنى
ذلك: أنَّ القرآن شمِل في خطابِه العقْل والوجدان والعاطفة؛ لأنَّ القرآن
الكريم حين يدْعو إلى العقيدة الصَّحيحة في الله، وفي كلّ ما جاء عنْه،
وحين يدْعو إلى التِزام تشريعٍ معيَّنٍ في عباداتِنا أو معاملتِنا أو
نُظُمنا الاجتماعيَّة، وحين يدْعو إلى الخلُق الكريم، والأدب الحميد،
واتِّخاذ ذلك منهجًا لنا في سلوكِنا الشَّخصي مع الله ومع النَّاس، حين
يدْعو القرآن إلى هذا كلِّه، لا يدْعو إليه دعوةً جافَّة وخشنة ليس فيها
إلاَّ مجرَّد الأمر الصَّارم أو النَّهي العنيف، وإنَّما يدْعو إليه دعوة
الحكمة العاقلة، فيُورده بأسلوبِ الأمْر أو النَّهي مقرونًا بوسائل
الإقناع بصِدْقِه، وصلاحيَّته وحسن عاقبتِه.
ووسائل الإقناع متعدِّدة:
فتارةً
يكون الإقْناع عن طريق العقْل، وتارة يكون عن طريق الوجْدان، وتارةً ثالثة
يكون عن طريق العاطفة، ولقد سلك القُرآن الكريم في دعْوته هذه الطُّرُق
الثَّلاثة:
1- خاطب العقل: لأنَّ من النَّاس مَن لا يؤمن إلاَّ بالدَّليل العقلي، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 91]، وقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا
﴾ [الأنبياء: 22]، وكلْتا الآيتَين دليل منطقي واضح يدركه من له إلْمام
بأساليب المناطقة في استِدْلالهم، ويُدركه كلُّ مَن له عقلٌ يعي ولو لَم
يكُن على علمٍ بأسلوبِ المناطقة, ثمَّ هناك آياتُ الله في السَّماوات وفي
الأرض وفي أنفُسِنا، وكلُّها براهين عقليَّة تشهد بوجود الله وربوبيَّته،
والقرآن الكريم - في أكثر من آية - يلْفِت أنظارَنا إلى هذه الدَّلائل
والبراهين، حتَّى تقوم الحجة بها على النَّاس.
وخاطب القرآن الوجدان:
لأنَّ مِن النَّاس من لا يحفزه إلى الانقِياد والطَّاعة إلاَّ ما يحرّك
وجدانه، ويُثير فيه جانب الرَّغبة أو الرَّهبة، فإذا ما أُمِر بِمعروفٍ
وقرن الأمر بالتَّرغيب، رغبتْ نفسه في الامتثال أملاً في الثَّواب، وإذا
ما نُهِي عن منكرٍ وقُرِن النَّهي بالتَّرهيب، كفَّ نفسه عنه رهبةً من
الوقوع تحت طائلة العقاب.
وكثيرًا
ما نجد في القُرآن الكريم آياتٍ تحرِّك في الوجدان نوازعَ الخير بما
تضمَّنتْه من وعدٍ بسعادة الدُّنيا ونعيم الآخرة، وآيات أخرى تُنيم في
الوجدان نوازعَ الشَّرّ بما تضمَّنتْه من وعيد بشقاء الدّنيا وعذاب الآخرة.
فمن الآيات التي تحرّك في الوجدان نوازعَ الخير، وتبعث على امتِثال الأوامر الإلهيَّة: قولُه تعالى: ﴿ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. وقوله تعالى: ﴿ مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَن
يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [النساء: 13].
ومن الآيات التي تنيم في الوجدان نوازع الشَّرّ، وتبعث في النَّفس الخوف من الوقوع فيما نَهى الله عنْه: قوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ
فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]، وقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا
الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن
يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ
النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [السجدة: 20، 21].
وخاطب القُرآن العاطفة:
لأنَّ مِن الناس مَن لا يستجيب لدعوة الخير إلاَّ إذا خوطب بما يهزّ
عاطفتَه، ويوقظ في نفسه كوامنَ الحبِّ والشَّفقة والرَّحمة، وفي القُرآن
الكريم آياتٌ كثيرة تدْعو إلى عمَل البرِّ والخير، وأُخرى تنهى عن ارتِكاب
بعض ما لا يَليق بالإنسان، وهذه وتلك مقرونة بِما ينبِّه العواطف
الإنسانيَّة ويُثيرها حتَّى تكون المحرِّك الدَّافع لفعل الخيرات
والمبرَّات، والمثبِّط عن ارتِكاب الحماقات والموبقات.
فمن الآيات المقترنة بِما يحرِّك العواطف الدَّافعة إلى فِعْل الخيرات والمبرَّات: قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ
تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً
كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].
ومن الآيات المقرونة بِما يحرِّك العواطف المعوقة عن ارتكاب الحماقات والموبقات: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ
يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ
أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 20، 21]، وقوله تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].
وهكذا يُخاطب القرآن الكريم العقل والوجدان والعاطفة؛ حتَّى يصِل إلى القلوب بتعاليمِه ومفاهيمه من كلِّ هذه النَّوافذ، وتلك رحمةٌ من الله بعباده الَّذين شرحوا صدورَهم للقُرآن، ولم يوصدوا دونه هذه المنافذ ويضعوا عليها أقفالاً من المكابرة والعناد
[8].
هكذا
نرى الشموليَّة القرآنيَّة البديعة في أسلوبه البديع البليغ، الَّذي جمع
بين العقْل المفكِّر، والوجْدان الذي تلهبه النَّوازع، والعاطفة التي
تحرِّكها البواعث والغرائز، وهكذا نجد القُرآن كلَّه مزيجًا حلوًا سائغًا،
يخفِّف على النفوس أن تجرع الأدلة العقليَّة، ويرفّه عن العقول باللَّفتات
العاطفيَّة، ويوجّه العقول والعواطف معًا جنبًا إلى جنب لهداية الإنسان
وخير الإنسان
[9].
ــــــــــــــــــــ
[1] غاية المريد للشيخ عطية قابل نصر.
[2] تيسير الكريم الرحمن، للعلامة عبدالرحمن بن سعدي.
[3] تفسير القرآن العظيم، للإمام ابن كثير الدمشقي.
[4] ثنائيات وثلاثيات وخماسيات هادية، للمهندس خالد حمزة.
[5] موارد الظمآن لدروس الزمان، عبدالعزيز محمد السلمان.
[6] تيسير الكريم الرحمن، لابن سعدي.
[7] أضواء على إعجاز القرآن الكريم، للشيخ عكرمة صبري.
[8] الوحي والقرآن، للدكتور محمد حسين الذهبي.
[9] مناهل العرفان، للشيخ الزرقاني.
دمتم برعاية الله وحفظه
شبكة الألوكة