الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
بسم الله الرحمن الرحيم
( فَاطِرُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الشورى (11)
قال العلامة سلامة القضاعي رحمه الله في البراهين الساطعة ص245 :
الكلام على بعض لطائف قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) .
وقبل أن أجاوز بك هذا الموضع أحب أن ألفتك إلى شيء من لطائف هذه الكلمة العلية وهي قوله عز وجل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)
فإنه قد روعي فيها من خصائص التراكيب العربية، وأسرار بلاغة القرآن العلية
على قلة كلماتها، ما يجلي لك علو شأن ربك في كمال التقدس، وجلال التنزه،
في أسنى الحلل وأروع الصيغ: وذلك أن العبارة المعتادة في هذا أن يقال (ليس
شيء يشبهه عز وجل) فأتى بهذا التركيب في هذه الصورة (ليس كمثله شيء)
قدم فيه الخبر وهو الكاف إن جعلت اسما، أو متعلقها إن قدرت حرفا، وأتى
بلفظ مثل بين الكاف وضميره عز وجل، وأتى بالمسند إليه وهو شيء مؤخرا منكرا
في سياق النفي المدلول عليه بليس، ولم يصرح بنفي مشابهة الشيء لمثله وإن
كان لازما، وإنما جعل المصرح به نفي مشابهة الشيء لمثله، مكنيا به عن نفي
مشابهة شيء له، وترك التصريح بالوجه الذي نفيت المشابهة فيه، وكل هذه
اعتبارات لها دلالتها على أسرار تأخذ بلب البليغ الحاذق، واللبيب الفطن،
وكأن الآية تقول: ليس شيء من الكائنات ـ وإن علا في الشيئية كعبه، وارتفعت
عندكم درجة وجوده، وامتاز لديكم في كمالاته الفائقة ـ يبالغ درجة أن يشبه
مثل جنابه العلي عن الأمثال في شيء مما هو عليه عز وجل في تقدس ذاته وجلال
صفاته. والعرب إذا أرادت المبالغة في الإثبات أو النفي قالت ((مثلك من
يجود))، و((مثلك لا يبخل)) لتدل بالإتيان بلفظ المثل على الإثبات والنفي
لما أثبتت أو نفت عن المخاطب بطريقة برهانية على سبيل كناياتهم البديعة،
فكأنهم يقولون: من كان على ما أنت عليه من الصفات فقد ثبت له كذا أو نفي
عنه كذا، فأنت أولى بذلك الإثبات أوالنفي. وقد خاطبهم القرآن على أروع
أساليبهم، وزاد هذا الأسلوب على ما يخطر لأفصحهم بيانا بدرجات لا تحصى.
فكأنه تعالى يقول: كل شيء من الممكنات، وإن تقدم لديكم في الكمالات، فهو
متأخر كل التأخر عن أدنى درجات الشبه لمثلنا لو فرض لنا مثل في شيء من
الكمالات، وهو وإن علا في كماله في أنظاركم، أحط من أن يرقى إلى رتبة من
الشبه في شيء هو لمماثلنا المفروض من الصفات، فكيف له بشبهنا ذاتنا. ونحن
في تعالي كمالنا وارتفاع جلالنا أعلى من أن يقع نفي مشابهتنا لخلقنا في
صريح العبارات، فإن من كان بالمحل الأعلى من الكمال الأسنى بحيث يستحيل أن
يشاركه فيه شيء لا يتوهم فيه أن يشبه ما هو أدنى، حتى ينفى عنه الشبه به،
وإنما يتوهم فيمن أوتي حظا من الكمالات أن يكون له شيء من الشبه بمن هو
أعلى، فلينف هذا الوهم، ولترسخ أقدامكم في العلم بأنه لا يشبه مثلنا
التقديري الفرضي شيء فضلا عن أن يشبه ذاتنا العلية .
ولا تظن أن هذا الضرب من البيان من
الخيالات الشعرية، أو الأمور الخطابية، فإنك إن دققت النظر تجد الشأن
الإلهي أرفع من أن تصوغه العبارات وإن دقت واتسعت. ولتوضيح هذا المقام
أستعير لك شيئا من عبارات ((فرقان القرآن)) مع شيء من الاختصار، إشفاقا
عليك من الملل، ومع بعض تصرف للإيضاح، قال عفا الله عنه: ((ومجمل القول في
هذا الباب أن صفات المحدثات على قسمين :
القسم الأول ما يدل على الحدوث
والإمكان والافتقار والاحتياج من حيث ذاته وماهيته أو ملزوماته أو لوازمه
المساوية، كالجسمية ولوازمها من الكون في الجهة والمكان، وقبول الانقسام،
وكون الذات ذات أجزاء، وغير ذلك مما هو من خصائص المادة، فهذا القسم مختص
بالكائنات لا يجوز أن يتصف الخالق منه بشيء أصلا، ثم منه ما يكون القول به
في الله عز وجل كفرا إجماعا، ككونه والدا أو مولودا، أو ذا صاحبة أو له
شريك، ونحو ذلك من كل ما النقص فيه ظاهر جلي، ومنه ما اختلف في كفر القائل
به ككونه تعالى في جهة الفوق ينزل ويصعد؛ إلى أشباه هذا مما يحتاج إلى
مزيد تأمل ودقة نظر في الكتاب العزيز. وأرجح الأقوال فيه أن ذلك ضلال
وبدعة، وفسق شنيع أشد بكثير من فسق الجوارح كالقتل والزنا، وقد يكون
للعامي بعض العذر في الجهل ببعض ذلك. أما من ارتفعت درجته عن العامية فلا
يعذر ولكن يعزر، لاسيما إن كان داعية إلى هذه الجهالات باسم الدين .
والقسم الثاني من صفات المحدثات ما لا
يدل على ما سبق من حيث ذاته بل من حيث نقصه عن الدرجة العليا في كماله،
كالوجود والحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، من كل ما
هو كمال من حيث ذاته وحقيقته، فهذا القسم هو للحق تعالى بالأصالة على أكمل
درجاته، وأبعدها عن شوب النقص وأرفعها عن لوازم الإمكان: واجب بوجوب
موصوفه تبارك وتعالى، قديم بقدمه، باق ببقائه. أما ما للمخلوق منه فهو له
بالعرض، حادث فيه بإحداث الحق، ممكن غير واجب على درجة نازلة لائقة بحال
الممكن، بحيث لا نسبة بين ما اتصف به الممكن منه وبين ما اتصف به الحق عز
وجل. وأين وجود ممكن حادث قابل للزوال غير مملوك للمتصف به حين اتصافه به،
من الوجود الواجب الأزلي الأبدي الذي يجل عن الابتداء والانتهاء، ويرتفع
عن قبول الانتفاء؟ وأين ما للكائنات من العلم الحادث المخلوق القليل
الضئيل، من علم الحق الواجب المحيط الأكمل؟ وهكذا سائر الصفات التي هي من
هذا القسم. فانتفت المشابهة بين وجودنا ووجوده، وحياتنا وحياته، وعلمنا
وعلمه... إلى سائر هذا النحو من الصفات، وكذلك قال المحققون: إنه لا
مشابهة بين هذا النوع من الصفات للممكن وبين الكمالات التي للغني الحميد
الواجب ذاتا وصفات إلا في مجرد الاسم، ولا اشتراك إلا في اللفظ فقط. وبهذا
يتبين لك معنى قوله تعالى في صفة ذاته العلية، وكمالاته المقدسة (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وقوله تعالى (هو الحي) وقوله سبحانه (وهو العليم القدير)،
وأمثال هذه الآيات الشريفة من كل ما دل على انحصار هذه الصفات فيه عز وجل،
وقصرها عليه ونفيها عمن سواه، ولبعد ما بين حقائق هذه الصفات في الممكن
وحقيقتها في الواجب تعالى قال بعض الفضلاء: إن إطلاق الوجود والحياة
والعلم ونحوها على ما للممكن ما هو إلا بالمجاز)) اهـ ما أردنا استعارته
من الكتاب المذكور .
ومن هذا البيان يظهر لك واضحا أن قوله تعالى (وهو السميع البصير) هو
تتميم لبيان نفي المشابهة له عز وجل بدفع ما عسى أن يقول واهم كيف يصح أنه
ليس كمثله شيء، وفي الأشياء ما هو ذو سمع وبصر؟ فقيل إن حقيقة ذلك إنما هي
له وحده، وما في الكائنات فليس له من تلك الحقيقة في كثير ولا قليل، فهي
مشابهة اسمية لا حظ لها في شيء من المعنى، وبالله التوفيق وله الحمد .
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم
اللهم ارزقنا الاخلاص في القول والعمل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته