من هو المستفيد حقًا من الحج؟
أيّها المسلمون، في الأيّام القليلة الخالية قضى الحجّاج عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، تجرَّدوا لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت دموعُ التّوبة في صعيدِ عرفات على الوجَنات؛ خجلًا من الهفَوات والعثَرات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرَّفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلةٍ من أروع الرحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، خيرٌ من الدنيا وأعراضِها وأغراضها التي ما هي إلا طَيف خيال، مصيره الزوالُ والارتحال، ومتاعٌ قليل، عرضةٌ للآفات، وصَدَف للفَوات. فهنيئًا للحجّاج حجُّهم، وللعُبَّاد عبادَتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قولُ رسول الهدى فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: (إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة)
[1].
حجّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما أولاكم، واحمَدوه على ما حبَاكم وأعطاكم، تتابَع عليكم بِرّه، واتَّصل خيره، وعمَّ عطاؤه، وكمُلت فواضله، وتمّت نوافله: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53], {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، ظُنّوا بربِّكم كلَّ جميل، وأمِّلوا كلَّ خيرٍ جزيل، وقوّوا رجاءكم بالله في قبولِ حجِّكم ومحوِ ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث القدسي: قال الله –تعالى-: (أنا عند ظنِّ عبدي بي)
[2]، وعن جابر -رضي الله عنه- أنّه سمع النبيَّ قبل موته بثلاثة أيّام يقول: (لا يموتنَّ أحدكم إلاّ وهو يُحسن الظنَّ بالله عزّ وجلّ)
[3].
أيّها المسلمون، يا مَن حجَجتم البيتَ العتيق، وجئتُم من كلِّ فجٍّ عميق، ولبّيتم من كلِّ طرف سَحيق، ها أنتم وقد كمُل حجكم وتمّ تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيكَ المشاعر، وأدّيتم تلك الشعائر، ها أنتم تتهيّؤون للرجوع إلى دياركم، فاحذَروا من العودة إلى التلوُّث بالمحرّمات والتلفُّع بالمعرّات والتِحاف المسَبَّات, {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]، امرأةٌ حمقاءُ خرقاء ملتاثة العقل، تجهد صباحَ مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًّا ومحكَمًا قويًّا عادت عليه تحلُّ شُعيراته، وتنقُض محكماتِه، وتجعله بعد القوّة منكوثًا، وبعد الصّلاح محلولًا، ولم تجنِ من صنيعها إلاّ الإرهاقَ والمشاقّ، فإيّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم، وتبدِّدوا ما جمَعتم، وتنقُضوا ما أحكمتم .
حجَّاج البيت العتيق، لقد فتَحتم في حياتِكم صفحةً بيضاء نقيّة، ولبستم بعد حجّكم ثيابًا طاهرة نقيّة، فحذارِ حذار من العودة إلى الأفعال المخزِية والمسالك المردِية والأعمال الشائنة، فما أحسنَ الحسنة تتبعُها الحسنة، وما أقبحَ السيئة بعدَ الحسنة .
إنّ للحجِّ المبرور أمارة ولقبوله منارة، سئل الحسنُ البصريّ -رحمه الله تعالى-: ما الحجّ المبرور؟ فقال: "أن تعودَ زاهدًا في الدّنيا، راغبًا في الآخرة".
فليكن حجُّكم حاجزًا لكم عن مواقع الهلَكَة، ومانعًا لكم من المزالِق المتلِفة، وباعثًا لكم إلى المزيد من الخيرات وفِعل الصالحات. واعلموا أنّ المؤمن ليس له منتَهى من صالح العمَل إلاّ حلول الأجل .
أيّها المسلمون، ما أجملَ أن يعودَ الحاجُّ بعد حَجِّه إلى أهله ووطنِه بالخُلُق الأكمَل، والعقلِ الأرزَن، والوَقار الأرصَن، والعِرض الأصوَن، والشيَم المرضيّة، والسجايا الكريمة.
ما أجملَ أن يعودَ الحاجّ بعد حجّه حَسنَ المعاملةِ لقِعاده، كريمَ المعاشرة لأولادِه، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهجَ الحقّ والعدل والسّداد، المضمَر منه خيرٌ من المُظهَر، والخافي أجملُ من البادي. وإنّ من يعود بعد الحجّ بتلك الصفاتِ الجميلة هو حقًّا من استفاد من الحجّ وأسراره ودروسِه وآثاره .
للشيخ: صلاح بن محمد البدير –حفظه الله-
[1] أخرجه البخاري.
[2] أخرجه الشيخان.
[3] أخرجه مسلم.
مسلمات
اللهم اغفر لنا سيئاتنا