خلال
تاريخنا الإسلامي و بين أيام الإسلام الأولى إلى الوقت الحالي، سطع نور
كلمات الله المباركة في القرآن الكريم، على أفواه كثير من القراء من
الصحابة و التابعين و تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
من هؤلاء القراء من نعرفهم و من نجهلهم لكن لا ننسى أن الله لا يجهلهم و لن يضيع أجر عمل عامل منهم.
أما
القراء الذين نعرفهم أو نسمع بهم من القرن الماضي و قد ملئوا زمانهم و
أيامهم عطورا من القرآن فواحة تملأ دنيانا عطورا و أنسا و أمانا و
طمأنينة، فحتى بعد رحيلهم بقيت لنا ذكرى لهم و لأيامهم السعيدة مع كتاب
الله في بعض الاسطوانات و التسجيلات القديمة، و هم سلسلة حفظها الله في كل
قرن يظهر لنا قارآت ذات صوت شجي تشرح القلب لنور الله و تزرع طاعته في
قلوبنا ورحمته وطمأنينته.
منهم بين هؤلاء القراء الشيخ محمد صديق
المنشاوي و الشيخ عبدالباسط عبدالصمد و الشيخ محمود خليل الحصري رحمهم
الله....وغيرهم من القراء.
و من هذه الأمثلة الرائعة ظهر لنا في منذ
عدة سنوات قارئ يذكرنا بهم ألا و هو القارئ الشيخ مشاري بن راشد العفاسي
وذلك دون أن ننسى القراء الآخرين في مقدمتهم الشيخ سعد الغامدي و الشيخ
خالد القحطاني و الشيخ أحمد العجمي و الشيخ صلاح بوخاطر و الشيخ البراك
وغيرهم.
وفه هذا الموضوع سأتطرق إلى سيرة أحدهم وهي سيرة رجل ضل يقرأ القرآن في صحته و مرضه و رحل عن دنيانا سريعا
إنه الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله (1920-1969)
هو القارئ الشيخ محمد صديق السيد المنشاوي أروعهم و أشجاهم و أقواهم صوتا و كان من أوائل الشيوخ الذين سجلوا قراءتهم في الإذاعة.
ولد
الشيخ محمد عام 1920 بمحافظة سوهاج و كانت عائلته تهتم بالقرآن و كان أبوه
قارئ للقرآن و كذلك عمه، وقد حرص على تعليم أولاده القرآن فإشتهر إثنين من
أولاده محمود و محمد لكن محمد هو الذي إشتهر أكثر و ذاع صيته في أنحاء
المعمورة و سجل لإذاعات مصر وسوية و لندن.
تزوج الشيخ مرتين، أنجب
من زوجته الأولى أربعة أولاد و بنتين، و من زوجته الثانية خمسة أولاد و
أربع بنات، و قد توفت زوجته الثانية و هي تؤدي فريضة الحج قبل وفاته بعام.
تلقى
الشيخ الكثير من المتاعب، إذ كان يحي سهرة قرآنية، فلما جاء دوره عطل أحد
القراء الحاقدين عليه جهاز المايكرفون ليذيع إشاعة بين الناس أن الشيخ
محمد المنشاوي ذو صوت ضعيف، وأن صوته يعتمد على المايكرفون، فقام الشيخ و
ترك مقعده و المايكرفون و أخذ يمر بين الحضور و هو يقرأ و يشجي الحاضرين
بصوته العبقري الجميل.
و حادثة أخرى عام 1963 و بعد الإنتهاء من السهرة
القرآنية دعاه صاحب السهرة لتناول طعام العشاء فرفض، لكن بعد إلحاحه وافق،
و قبل أن يبدأ بتناول الطعام جاء إليه الطباخ و هو يرتجف، و همس في أذن
الشيخ، و قال له إن طعامك مسموم و لا تفضحني فينقطع رزقي، و وصف له الطبق
الذي سيقدم له، و قال أن أحد الأشخاص دفع لي كي أضع السم في صحنك، فلم
يأكل الشيخ منه، و أكل خبزا كي يبر قسم صاحب المائدة الذي لا يعلم بوجود
السم في طبق الشيخ و قد علم الشيخ محمد صديق أن أحد المقرئين هو الذي دفع
للطباخ ليسممه.
و له مواقف كثيرة و عظيمة قرأتها عنه ومنها أن جمال
عبدالناصر أرسل رجلا من رجاله ليدعوا الشيخ المنشاوي في حفل يقيمه، و قال
له أن الرئيس جمال يدعوك لتقرأ في حفل يحضره ولك الشرف في ذلك، فقال الشيخ
لماذا لا يكون الشرف لعبدالناصر أن يستمع القرآن بصوت محمد صديق المنشاوي،
و لم يحضر ذلك الحفل.
مرض الشيخ بمرض دوالي المريء في حلقه و هو في
سن مبكرة عام 1966 و أخر العلاج أيامه الأخيرة، و كان في أيامه الأخيرة
يقرأ القرآن بصوت جهوري شجي أكثر من أيام صحته، و كان الناس يجلسون خارج
بيته ليستمعوا إليه دون علمه و هم متأثرين و كأنهم أحسوا بدنو أجل الشيخ.
لكنه
أبى إلا أن يموت و هو يقرأ القرآن و ظل يقرأ سورة الكهف بمسجد الزمالك حتى
تدهورت حالته الصحية و أمر عبدالناصر بعلاجه في لندن، إلا أن الله إختاره
و فاضت روحه الزكية إلى بارئها قبل أن يذهب إلى لندن بتاريخ 20/6/ 1969 عن
عمر ناهز 49 عاما قضاها في قراءة القرآن و خدمته و بذلك فقدت الأمة علما
عظيما من أعلامها و في سن مبكرة و خسارتنا فيه لا شك أنها فادحة.
الذكرى
الوحيدة للشيخ محمد بن صديق المنشاوي هي قراءته للقرآن مرتلاً في مصحف
كامل له كما هو موجود في التسجيلات، و أما مصحفه المجود الذي متعنا فيه
أكثر وخاصة نبرات صوته الشجية و نغماته و مؤثرات صوته الطبيعية فللأسف
تنقصه 5 ساعات تقريبا، و ذلك لإهمال الإذاعة و تسجيلها في وقت قراءة الشيخ
محمد صديق المنشاوي لبرامج تافهة مثل ما يطلبه المستمعون (الأغاني) أو
خطابات عبدالناصر فلا حول و لا قوة إلا بالله
و بالتأكيد له صور نادرة.
وهذه بعضها له ولأخيه
و
لقد تساؤلت كثيرا عن عدم تكريم مصر لإبنها البار الشيخ المنشاوي حتى يومنا
هذا و على النقيض من ذلك منحة الرئيس الإندونيسي الراحل أحمد سوكارنو وسام
الاستحقاق من الدرجة الأولى، و لما قرأ القرآن في إندونيسيا كان الشعب
الإندونيسي واقفا يستمع منصتا لقراءة الشيخ و هم يبكون متأثرين بحلاوة صوت
الشيخ.
و حصل على و سام إستحقاق آخر من الدرجة الثانية من سورية.
أما والده الشيخ القارئ صديق المنشاوي فقد منح و سام إستحقاق من الدرجة الثانية عام 1985 لكن بعد وفاته رحمه الله.
رحم
الله الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمة واسعة و أسكنه فسيح جناته، وأسأل
العلي القدير أن يجعله ممن يقرئون القرآن في الجنة فيعلوا و يعلوا إلى ما
شاء الله، و أن يحشره مع النبيين و الصديقين و الشهداء و أن يحشرنا معهم و
يرزقنا مرافقتهم في الجنة إنه ولي ذلك و القادر عليه.
و صلى الله
على نبينا الشفيع المشفع الصالح الأمين سيدنا محمد بن عبدالله و على آله و
أصحابه الطيبين الطاهرين و تابعيهم و من تبعهم بإحسان إلى يوم الذين و سلم
تسليما كثيراً.
أتنمى أن تعم الفائدت بموضوعي المتواضع
و أن لا تنسوني بدعائكم