من
مدينة حمام الأنف التونسية، مسقط رأسه، انطـــلق محمد الأوسط العيّاري (52
سنة) في رحلة العلم، بعد حصوله عام 1983 على بكالوريوس في الهندسة المدنية
من «المدرسة القومية للمهندسين». نال شهادة الدكتوراه عام
1988 من جامعة بولدر في ولاية كولورادو، في الهندسة والعلوم التطبيقية ذات
الصلة الوثيقة بميكانيكيات التصدّع والتفسّخ والتشقّق في السدود والمباني
الشاهقة والخراسانات المسلّحة، عند تعرضها لصدمات قوية كالقصف والزلازل
والهزّات الأرضية وغيرها.
بعد ذلك عمل أستاذاً في قسم الهندسة
الميكانيكية والصناعية في جامعة مانيتوبا الكندية، إضافة إلى كونه باحثاً
في مشروع حكومي كندي لتخزين النفايات النووية وطمرها في أنفاق يصل عمقها
إلى 3 كيلومترات تحت الأرض.
عودة إلى الحلم الأميركي
بعد 7
سنوات، عاد إلى أميركا. وعيّن أستاذاً ملحقاً في كلية الهندسة بكولورادو،
ومستشاراً في «شركة بال لعلوم الفضاء وتكنولوجياتها» (The Ball Aerospace
and Technologies Corporation). ووصف عمله في هذه الشركة بأنه كان فرصة
ثمينة للتعمّق في بحوث البصريات وهندسة الفضاء، وعلوم تلسكوبات الفضاء،
وتصميم الهياكل والمحركات، وتوجيه المركبات الفضائية وإجراء تجارب عليها
قبل إقلاعها، وتحديد مواقع الكواكب والتحكّم في مساراتها وغيرها. وفي تلك
الآونة، ساهم بفاعلية في تصميم معدات وأجهزة بصرية عالية الدقة وُضِعَت في
تلسكوبات فضائية مشهورة مثل «هابل» Hubble و «تشاندرا» Chandra و «كيبلر»
Kepler. واستُخدِمَت هذه الأجهزة أيضاً في مشروعات فضائية متّصلة ببرنامج
مركبات «أوريون» Orion، المختصّة في رحلات القمر، وبرنامج مكوكات الفضاء
(شارف على الاختتام نهائياً)، والسيّارتين - الروبوتين «سبيريت» و
«أُبورتشونيتي» المزودتين بأجهزة تحكم لإرسال الصور مباشرة من المريخ الى
الأرض. ويعقّب العيّاري على هذه المساهمات بقوله: «لا تعود الى شخص بعينه،
بل هي نتاج فريق عمل متكامل في إطار الاستراتيجية الفضائية التي تحدّدها
«وكالة الفضاء والطيران الأميركية - ناسا».
وتقديراً لخبرته
أكاديمياً وعلمياً، مُنِح العيّاري أوسمة وجوائز في أميركا وكندا. وجرى
اختياره عضواً في «الأكاديمية العالمية للفلكيين» International
Astronomers Academy، و «المعهد الأميركي للملاحة الجوية والفضائية»، و
«رابطة المهندسين المحترفين» في مقاطعة مانيتوبا (كندا)، ورئيساً لقسم
البحوث في جامعتها، إضافة إلى إشرافه على طلاب رسالات ماجستير ودكتوراه في
جامعتي مانيتوبا وكولورادو.
توّج العيّاري خبراته في علوم البصريات
والفلك، باختراع أداة لمراقبة السماء سمّاها «الشاهد»، وهي أول منظومة
عربية مختصّة في رصد الهلال ومجموعة من الظواهر الفلكية المتصلة به.
ووصف
العيّاري في تصريح الى «الحياة»، هذا الاختراع قائلاً: «لا يقتصر «الشاهد»
على رصد الهلال والشهور القمرية وتحديد ولادتها ورؤيتها، بل ينسّق منظومة
علمية متكاملة لرصد ظواهر فلكية آخرى، مثل حركة النجوم، والرؤية الأفقية
لسطح القمر، ورصد أحوال الطقس والسحب، ومراقبة ظاهرة التصحّر، وقياس درجات
التلوّث، والمسح الجيولوجي للأرض وغيرها».
وأفاد العيّاري بأن فكرة
«الشاهد» انطلقت من سؤال طرحته عليه فتاة تونسية عن إمكان وضع حدّ للجدال
الدائم في العالمين العربي والإسلامي حول رؤية هلال شهر رمضان المبارك،
بواسطة أسلوب علمي واضح. وقد أُنجِز مشروع «الشاهد» عام 2005 بمشاركة فريق
من سبعة أشخاص من كندا وأميركا وكوريا والسعودية وليبيا، إضافة الى زميل
للعيّاري من تونس. ويبلغ طول «الشاهد» قرابة نصف المتر، ولامست تكلفته 150
ألف دولار، جاءت من المال الخاص لهذا العالِم.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وتبلغ المنظومة
الفلكية الكاملة لـ «الشاهد»، وضمنها تكلفة مراكز المراقبة المتوزّعة
عالمياً، قرابة 66 مليون دولار. وأجريت تجربة «الشاهد» في تونس وبعض
الولايات الأميركية. وأُعلن نجاحه في مؤتمر علمي استضافته مدينة مرسيليا
(فرنسا) في 2008، حيث صنّف باعتباره منظومة فلكية علمية متكاملة.
إشكالية رؤية الهلال
وتحدّث
العيّاري عن إشكالية رؤية الهلال وتحديد ولادته، منوّهاً بقدرة «الشاهد»
على جعل الناس، بصرف النظر عن موقعهم جغرافياً، قادرين على أن يشهدوا ولادة
الهلال برؤية العين، إضافة إلى التقاط الصور لهذه الولادة وإرسالها إلى
مركز المراقبة الرئيسي، عبر شبكة اتصال مختصّة. وتجرى هذه العمليات
بالتنسيق مع مراكز رصد أخرى متوزّعة في دول عدّة.
وأوضح
العيّاري أن منظومة «الشاهد» تستطيع إيجاد حلّ لمسألة رؤية الهلال في بلد
دون غيره، من طريق إجراء حسابات دقيقة لفروق التوقيت بين البلدان، مُشيراً
إلى قدرة مركز المراقبة الرئيس على التعامل مع ولادة الهلال في الدول
الإسلامية كلها. وشدّد على أن الهلال يولد فلكياً مرّة في كل شهر، ولكن
تختلف أوقات رؤيته من الأرض، ما يفتح الباب أمام اتفاق المسلمين على يوم
موحّد لبدء شهر الصوم. وأعرب العيّاري عن أمله في أن تصبح منظومة «الشاهد»
مرجعاً علمياً وثائقياً وتعليمياً، إضافة إلى كونه منتجاً قابلاً للتسويق
في الأسواق العربية والإسلامية.
ويُلاحظ أن بعض علماء العرب في الغرب، شرع في استثمار ما يملكه من علوم وتقنيات لتوظيفها في مشروعات اقتصادية وتجارية.