الأحياء الأموات بقلمي

الأحياء الأموات بقلمي





رن
الجرس ،معلنا نهاية حصة الدعم ،ففي الدراسة ،خاصة في السلك الثانوي،الدعم
مطلوب تقوية لقدرات التلاميذ المعرفية ،كانت حصة رياضيات أخرى ،استمتعت
بها عائشة ،أدخلت يدها في حقيبتها التركوازية محاولة إخراج شي ء ما ،تلمست
أناملها الفتية القعر بشغف ،أين هو؟ ،ومافتئ تحول هذا الشغف إلى إرتياب
،لبه المرور السريع للزرياب ،ليصبح في الأخير قلقا واضحا، يلعب بأعصابها
كما تلعب رياح الخريف بأوراق الأشجار ،إنه منتصف ديسمبر،فصل الشتاء
،التمثيل الطبيعي للقساوة في الطبيعة،وإن كانت قلوب البشر أقسى من الحجارة
أو أشد ،الظلام حالك ،يسيطر على الأجواء فقد طرد أخر بصيصات من النور إلى
الجانب الآخر من الكرة الأرضية واستولى على السماء لوحده ،محتفلا مع تلك
الغيوم المكفهرة التي غطته بنصر، لم يهتم بما يجري في الأسفل وبعائشة
المسكينة.

خرجت
وهي تهمس بجنون محاولة تذكر خواص التحويلات الإعتيادية ،فمنها الإزاحة
والمحاكاة ...،لم يقطع حبل أفكارها ،إلا حين خلت بها الشوارع، فأصبحت كحي
وسط الأشباح ،فالصمت رفيق الطريق ،والرعب على أبواب قلبها ينتظر
اللحظة المناسبة ليكسرها ،تمنت أن تستمر الأمور على حالها ففي عصرنا
الأشباح أرحم من الأحياء.لم ينكسر ذلك الصمت إلا بصوت الحذاء، تمنت أن
تخلعه وتمشي حافية ،فللجدران آذان و مع
كل خطوة يخيل إليها أن يخرج من ذلك الزقاق أو ذاك ،ذئب بشري يقتص منها
،فهي كالنعجة الضائعة وسط غابة مليئة بالوحوش ندر وجود الوداعة فيها ،بتلك
المشاعر المتقدة في صدرها ،خوف وفرح ،شجاعة وحزم ،أكملت الطريق ،بعد
عبورها حدود الأزقة ،دخلت شارع المقاهي ،مليء بالرجال ،لا مكان للرعب ،طرد
من فؤادها ككلب رفس برجل غليظة في مؤخرته ،لم تكد تبلغ نصف الشارع ،حتى
أحست برعشة في جسدها ،تلاها شعور بالوخز في ظهرها ،تجمد دماغها ،وعاد
الكلب غولا ضخما ،سحق قلبها مثل العجينة ،اصفرت وكادت تصاب بالإغماء من شدة الصدمة وزاد لهول أهوالها ،كلمات خرجت من ثغر كريه ،رائحته تزكم الأنوف وتشمئز النفوس .



((أعطني حقيبتك يا سيدة.))

نظرت متوسلة إلى الرجال في المقاهي ،ليخرج مقدام يشبع هذا المخبول ضربا ويطرده كضبع خسيس ،فتحولوا كلهم
إليها ،لا تستبشروا ،فهي ليست بعلامة خير ،فقد راقبوا الموقف ،مراقبة
الأطفال لمهرجي السيرك أو متابعة الناقد أحد المواقف الدرامية ،لم ينبس
أحد بشفة ،بل ظلوا مسمرين في أماكنهم،كصواري معابد بنيت من آلاف السنين
،أرادت الصراخ ،أرادت الإستغاثة،ولكن لم يخرج من فاهها شيئ رغم أنه مفتوح،
ولماذا الإستغاثة الآن،فيبدو أنه ليس للذئب نظير ،فقد تكالبت الأسود على
بعضها البعض وصارت أجبن من الدجاج.



(( أرجوك ،إلا الحقيبة ،هي غالية ،أستطيع إعطائك المال ))



قهقه
مستمتعا بتعذيب ضحيته،أجمل جزء في عملية السرقة ،هي اشتمام الرعب الذي
يفوح منها فيعبقه شجاعة وحبورا، إذن الحقيبة غالية ،وهي ما سيريد ،أمسكها
من شعرها المنسل ووخزها بسكينه العملاق مرة أخرى ،هي نعجة ثمينة ،ليس لها
مثيل ،فهذه الطريق لم تسلكها '' طرية '' مثلها منذ زمن بعيد.



((أعطني الحقيبة ،وإلا أخرجت هذه السكين من بطنك.))



بدأت
بالبكاء الصامت ،بل وتحول إلى دمع قوي شق خدودها ،لم يكترث لتوسلاتها ،هي
غنيمته ،بكاءها هو حصاد نجاحه ،وأنينها الممتلئ بالألم يعطي هذه العملية
روعة لا مثيل لها ،وما جعله ،يقفز فرحا ،كون الرجال ،الشياطين الخرساء
،يشاهدون المنظر من بعيد ،بدون أي حركة،أخيرا توغل في فعله الشنيع بواسطة
السكين ، وجرحها في الظهر بشكل خفيف ،ثم انتزع الحقيبة من يدها بكل قوة
.غارقة في نشيجها ،بللت الأرض دموعا، لا لآخر صورة لأمها الراحلة في
الحقيبة،ولا للآلم المتنامي في ظهرها ،بل على عصر ،حيث فيه رجال أحياء
،ولكن بأرواح ميتة ،أرواح فقدت معاني قيمة منذ زمن بعيد ،إنهم فعلا لأحياء
أموات .