فضل من قام رمضان
كتاب صلاة التراويح 3
وعن
ابن شهاب عن
عروة بن الزبير عن
عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال خرجت مع
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله
قوله : ( وعن ابن شهاب ) هو موصول بالإسناد المذكور أيضا ، وهو في " الموطأ " بالإسنادين ، لكن فرقهما حديثين ، وقد أدرج بعض الرواة قصة عمر في الإسناد الأول أخرجه إسحاق في مسنده عن عبد الله بن الحارث المخزومي عن يونس عن الزهري فزاد بعد قوله : " وصدرا من خلافة عمر " : حتى جمعهم عمر على أبي بن كعب فقام بهم في رمضان ، فكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان " وجزم الذهلي في " علل حديث الزهري " بأنه وهم من عبد الله بن الحارث والمحفوظ رواية مالك ومن تابعه ، وأن قصة عمر عند ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد وهو بغير إضافة ، لا عن أبي سلمة .
قوله : ( أوزاع ) بسكون الواو بعدها زاي أي : جماعة متفرقون ، وقوله : في الرواية : " متفرقون " تأكيد لفظي ، وقوله : " يصلي الرجل لنفسه " بيان لما أجمل أولا ، وحاصله أن بعضهم كان يصلي منفردا وبعضهم يصلي جماعة ، قيل : يؤخذ منه جواز الائتمام بالمصلي وإن لم ينو الإمامة .
قوله : ( أمثل ) قال ابن التين وغيره : استنبط عمر ذلك من تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلى معه في تلك الليالي ، وإن كان كره ذلك لهم ، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم ، وكأن هذا هو السر في إيراد
البخاري لحديث عائشة عقب حديث عمر ، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل الأمن من ذلك ، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة ، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين ، وإلى قول عمر جنح الجمهور ، وعن مالك في إحدى الروايتين
وأبي يوسف وبعض الشافعية : الصلاة في البيوت أفضل عملا بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث
أبي هريرة ، وبالغ
الطحاوي فقال : إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية ، وقال ابن بطال : قيام رمضان سنة ؛ لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - خشية الافتراض ، وعند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه : ثالثها من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء ، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل .
قوله : ( فجمعهم على أبي بن كعب ) أي : جعله لهم إماما ، وكأنه اختاره عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله وسيأتي في تفسير البقرة قول عمر : " أقرؤنا أبي " وروى
سعيد بن منصور من طريق عروة : " أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بالرجال ، وكان
تميم الداري يصلي بالنساء " ورواه محمد بن نصر في " كتاب قيام الليل " له من هذا الوجه فقال : " سليمان بن أبي حثمة " بدل
تميم الداري ، ولعل ذلك كان في وقتين .
قوله : ( فخرج ليلة والناس يصلون بصلاة قارئهم هذه الرواية تختلف عن رواية المتن ، ورواية المتن هي التي شرح عليها القسطلاني . ) أي : إمامهم المذكور ، وفيه إشعار بأن عمر كان لا يواظب على الصلاة معهم ، وكأنه كان يرى أن الصلاة في بيته ولا سيما في آخر الليل أفضل ، وقد روى محمد بن نصر في " قيام الليل " من طريق طاوس عن ابن عباس قال : " كنت عند عمر في المسجد ، فسمع [ ص: 298 ] هيعة الناس فقال : ما هذا؟ قيل : خرجوا من المسجد ، وذلك في رمضان ، فقال : ما بقي من الليل أحب إلي مما مضى " ومن طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه من قوله .
قوله : ( قال عمر : نعم البدعة ) في بعض الروايات : " نعمت البدعة " بزيادة تاء ، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة ، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة ، وإن كان مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة ، وإلا فهي من قسم المباح ، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة .
قوله : ( والتي ينامون عنها أفضل ) هذا تصريح منه بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله ، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع .
( تكميل ) : لم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب ، وقد اختلف في ذلك ؛ ففي " الموطأ " عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة ، ورواه
سعيد بن منصور من وجه آخر ، وزاد فيه : " وكانوا يقرءون بالمائتين ويقومون على العصي من طول القيام " ورواه محمد بن نصر المروزي من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يوسف فقال : ثلاث عشرة . ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال : إحدى وعشرين ، وروى مالك من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عشرين ركعة ، وهذا محمول على غير الوتر ، وعن يزيد بن رومان قال : " كان الناس يقومون في زمان عمر بثلاث وعشرين " وروى محمد بن نصر من طريق عطاء قال : " أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر " والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال ، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس ، وبذلك جزم الداودي وغيره ، والعدد الأول موافق لحديث عائشة المذكور بعد هذا الحديث في الباب ، والثاني قريب منه ، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر ، وكأنه كان تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث ، وروى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال : " أدركت الناس في إمارة
أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز - يعني : بالمدينة - يقومون بست وثلاثين ركعة ، ويوترون بثلاث " وقال مالك هو الأمر القديم عندنا . وعن الزعفراني عن
الشافعي " رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين ، وليس في شيء من ذلك ضيق " وعنه قال : إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن ، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن ، والأول أحب إلي .
وقال الترمذي : أكثر ما قيل : فيه أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة يعني : بالوتر ، كذا قال . وقد نقل ابن عبد البر عن الأسود بن يزيد : تصلى أربعين ويوتر بسبع ، وقيل : ثمان وثلاثين . ذكره محمد بن نصر عن ابن أيمن عن مالك ، وهذا يمكن رده إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر ، لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة ، فتكون أربعين إلا واحدة ، قال مالك : وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة ، وعن مالك ستا وأربعين وثلاث الوتر ، وهذا هو المشهور عنه ، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال : لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعا وثلاثين يوترون منها بثلاث ، وعن زرارة بن أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعا وثلاثين ويوتر ، وعن سعيد بن جبير أربعا وعشرين ، وقيل : ست عشرة غير الوتر . روى عن أبي مجلز عند محمد بن نصر ، وأخرج من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب [ ص: 299 ] بن يزيد قال : كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة . قال ابن إسحاق : وهذا أثبت ما سمعت في ذلك ، وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل ، والله أعلم .
فتح الباري شرح صحيح البخاري