الصيام..الصيام.. { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
كتبها الشيخ أبي أويس الإدريسي
كان
أهل الإسلام في أزمنة مضت يستقبلون شهر رمضان المبارك بالاستبشار والفرح
والسناء، وبمشاعر فياضة بالمحبة والأنس والبهاء، وبنفوس مليئة بعزة
الانتماء.
لسان حالهم يقول:
رمضان هـلّ بـوافـر الخيـرات *** يهدي لـنـا الآمال والبـركـات
يحيي القلوب بهدي رب راحم *** ويـُمِـدنا بالـنـور والـنـفحــات
شهرَ الفضائل جئتنا تجلو العنا *** بالحـب تـنعـشـنـا وبالنسـَمـات.
فما
أنْ يُعلن دخولُ شهرِ رمضان الأغر فيهمِ حتى ترى الناس وحدانا وزرافات قد
أقبلوا على الخيرات، وسارعوا إلى الطاعات، مع الاعتزاز بدين رب الأرض
والسماوات، كأنَّ الروحَ تسبحُ فيما يكرم الله به من النفحاتِ ، وكأنَّ
القلوب استبدلت بأخرى لمْ تبارز ربها بالمعاصي في الجلوة ولا في الخلوات،
فياله من شهرٍ كثير البركاتِ والخيرات.
أما في زماننا هذا فتدنست قلوب كثير من المسلمين، ولم يحملهم إقبال هذا الشهر الكريم على التوبة والإنابة والرجوع إلى رب العالمين.
أصيبوا بالخور والضعف والكسل فلم يشمروا فيه لفعل الخيرات، ولم يجاهدوا النفوس للإكثار من الطاعات والعبادات.
حل فيهم داء الحقد والقطيعة والتدابر والشحناء، ولم تؤثر فيهم نسمات رمضان الغراء لسوء الطوية وخبث السريرة وهذا أدوء الداء.
تبلدت
الأحاسيس، وضعف الانتماء للدين، مع أن هذا الشهر الكريم المفروض أن يكون
للمسلمين تذكرة بعزتهم وقوتهم ومنعتهم ودافعا لهم إلى تمسكهم بهويتهم
الإسلامية، وبأصولهم الدينية.
فرمضانُ المباركُ شهرُ صمودٍ وتحدٍّ؛
وشهرُ ثباتٍ وتصدٍّ، وشهر محاسبة ومجاهدة، تقبل فيه الجموع الصائمة – حقا
وصدقا – وتتسابقُ إلى الخيراتِ تعبُّداً لله تعالى وتألهُّا وخشيةً ومحبةً
ورجاءَ وخوفا.
وهو محطة لاجتماع الفر قاء على عبادةٍ يبغضها شياطينُ
الإنسِ والجنِّ وهي العفوُ والتسامحُ وإزالةُ أسبابِ القطيعةِ والتشاحن
والتدابر، ففي رمضان الأغر من معاني الوحدةِ والمشاعرِ المشتركةِ ما لا
يخفى على بصير.
وصومُ رمضانَ ليسَ امتناعاً عن الأكلِ والشربِ والجماعِ
ساعاتٍ محددةً فقطْ، بلْ هو صومُ الفرجِ والبطنِ واللسانِ والأذنِ عنْ
كلِّ ما حرَّمَ الله ليلاً ونهاراً .
ورمضانُ فرصةٌ لكسرِ الحدَّةِ وإصلاحِ النَّفسِ وتقويمها فكيفَ نجعلُ منه ذريعةً للانفعال والخصامِ وقبيحِ الفعال ؟
وشهرُنا شهر العزة والفخر وإبراز صدق الانتماء فهو موسمُ الانتصاراتِ الكُبرى والفتوحات الخالدة على ممر تاريخ الإسلام .
ورمضانُ يُطِبُّ البخلَ بالجودِ والكرمِ إذ هو زمنُ البذلِ والإحسانِ وشعورُ الأغنياءِ والمترفين بجوعِ الفقراءِ والمعوزين.
فهذه
الأيامُ المباركةُ والليالي الفاضلةُ موسمٌ رابحٌ لمن أرادَ ذكرَ الله
وشكرَه وتعظيمَه والثناءَ عليه، وموسمٌ مضمونُ الربحِ لمن رغبَ الاتجارَ
معَ الله في الآخرة بإخلاص وصدق، وموضعُ قبولِ الدعوات والتضرعاتِ فما
أكثرَ ما نرجوه وننشده في الآخرةِ والدنيا على صعيد الفردِ والأمة، وهو
موسمُ الآثارِ الباقيةِ والدعواتِ الناجحةِ والاحتسابِ النافذِ والخيرِ
الذي لا يزولُ ، فجديرٌ بكلِّ مسلمٍ أنْ يشمرَ عن ساعدِ الجدِّ الذي لا
يعرفُ الكلالةَ عسى أنْ نكونَ فيه من الفائزين
فكم لهذا الشهرِ الكريمِ
- لمن دخله بحقه وعمل فيه بشرطه - من آثارٍ تربويةٍ على الأفرادِ والجموعِ
وليس هذا بمستغربٍ على موسمٍ جليلٍ أراد الله منه تقوى العبادِ وبراءةَ
النّفوسِ من أوزارِ الحياةِ، وطهارتِها من أوضارِ الهوى.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
قال العلامة السعدي رحمه الله:" ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى:
أن
الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل
إليها نفسه، متقربا بذلك إلى الله، راجيا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى.
ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه وتقل منه المعاصي.
ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى.
ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى" تيسير الكريم الرحمن.