جيل الإبهام الصغير
نصر الدين لعياضي
_____________________
يصف
الفيلسوف الفرنسي ومؤرخ العلوم، ''ميشال سير''، أبناء الجيل الذي نشأ
وترعرع في ظل التكنولوجيا الرقمية، بجيل الإبهام. وذلك للدلالة على كثـرة
استخدام إبهام يدهم لولوج عالم المعرفة والإعلام والترفيه والتدرب على
الحياة الاجتماعية واكتساب المهارات، عبر لمس شاشتي جهاز ''الأيباد''
والهاتف المحمول الذكي. ويتحدث عنهم بنوع من الرأفة وحتى الإعجاب، لأنهم
يقفون في قلب التغيير السريع الذي مسّ مختلف جوانب حياتنا.
ومن يعرف
الثقافة الفرنسية يدرك، بسرعة، أن ''ميشال سير'' استلهم هذا الوصف من
الحكاية الشفوية المدفونة في بطون الثقافة الشعبية الفرنسية، والتي أحياها
الكاتب الفرنسي ''جيل بيرو''، وبعث الحياة في بطلها الذي كُنّي بالإبهام
الصغير لقصر قامته والذي استطاع أن ينقذ إخوته الأكبر منه سنا من الضياع
والهلاك، ربما الأمر يتعدى الاستلهام ليقترب من الاستعارة.
يعتقد هذا
الفيلسوف أن إبهام هذا الجيل غيّر الكثير من واقعنا، بدءًا باللسان، فأجبر
مجامع اللغة على إدراج العديد من الكلمات والمفردات في قواميسها بشكل غير
مسبوق منذ تأسيسها. ويرى من موقعه كعضو في أكاديمية اللغة الفرنسية، أن هذه
الأخيرة دأبت على إعادة طبع القاموس الفرنسي كل أربع سنوات، فتضيف له ما
بين أربعة إلى خمسة آلاف كلمة، لكن الفرق بين طبعة وأخرى في العصر الحالي،
أصبح يناهز الثلاثين ألف كلمة!
يحدثنا هذا الفيلسوف قائلا: لو افترضنا
أن شابا من ''جيل الإبهام'' شارك في مسابقة الالتحاق بالمدرسة العليا
للأساتذة وسُئل عن نص من القرن التاسع عشر يتحدث عن موسم الحرث والبذر،
ووفاضه خال من المفردات التي تسمح له بالتعبير عن هذا العالم، فهل يجوز
لنا القول إن مستواه أقل من مستوى أبناء الجيل الذي سبقه؟ فأبناء جيل
الإبهام، في نظره، لا يعرفون سوى المدينة، والفلاحة تراجعت في عصرهم، حيث
ما انفك عدد الفلاحين يتناقص من سنة إلى أخرى، منذ أزيد من قرن، والريف
أصبح لديهم مرادفا للنزهة. لكن ماذا لو غيرنا الوضع وامتحنا شخصا من أبناء
الجيل السابق في المصطلحات التقنية الجديدة التي واكبت التكنولوجيا الرقمية
وثقافتها، ونحن نعلم أنه يعاني من الأمية الإلكترونية؟ فهل يمكن أن نقول
إن مستواه أدنى من الجيل الصاعد؟ إن ''تسونامي'' التغيير الذي نعيشه في كل
المجالات، يطرح علينا السؤال التالي: ما هو نوع المعرفة المطلوبة في عصرنا
هذا؟ وما هي أنسب الوسائل لامتلاكها؟ وكيف نستخدمها؟ ففي هذا الإطار يذكر
''ميشال سير'' أن أستاذ العلوم في جامعة السربون الفرنسية، الذي ينتمي إلى
الجيل السالف، كان يقدم لطلبته 70% من المعارف التي حصل عليها في الجامعة
ذاتها منذ ثلاثين سنة خلت، بينما نلاحظ، اليوم، أن 80 % من المعارف التي
يقدمها الأستاذ تجاوزتها المعرفة العلمية، وأصبح بإمكان الطالب الحصول على
نسبة 20% من المعارف المتبقية دون أن يغادر بيته!
فماذا يفعل أبناء
''جيل الإبهام'' عندما يدرون أن السلطات الأمريكية رفضت، في الأربعينيات من
القرن الماضي، الاتفاق الذي أبرمته شركة ''فورد'' لصناعة السيارات مع شركة
''موتورولا للإلكترونيات'' والخاص بتجهيز سياراتها بمذياع، بحجة أنه يعيق
تركيز السائق على قيادة سيارته؟ سيضحكون بملء شدقيهم، لأنهم ''متعددو
المهام'': يسمعون الموسيقى ويرسلون نصا قصيرا من هواتفهم النقالة ويتابعون
فيلما في ''الأيباد'' ويأكلون في آن واحد!
قد يُقال إن التكنولوجيا
الحديثة لا تنشط بعض مناطق المخ مثلما يفعل الكتاب، وهذا ما أكدته البحوث
العلمية، بيد أن ''ميشال سير'' يتساءل عما كانت تفعله هذه المناطق قبل
اختراع الكتابة والقراءة. إن الحكم على التكنولوجيا الرقمية ظل مرهونا، إلى
حد كبير، بالنظرة التبخيسية لثقافة الشاشة التي تُعد ينبوع الترفيه.
والديانتان المسيحية واليهودية تؤثمان الترفيه والتسلية، لاعتقادهما بأنهما
تتنافيان والقيم الروحية التي يمنحها الألم والمعاناة للإنسان. لذا، يعترف
الفيلسوف المذكور أنه الشخص الوحيد، تقريبا، الذي يرفض التخدير عند تطبيب
أسنانه، وهذا الأمر يبدو غريبا بالنسبة للطبيب للذي لا يعرف أنه من بقايا
جيل تربى على الألم ويثمّن دوره في تطهير الإنسان.
ويرى ''ميشال سير''
أن التكنولوجيا الحديثة عجّلت في الواقع الافتراضي ولم تخلقه لأنه وُجد
قبلها، فجل أبطال القصص والروايات أشخاص افتراضيون. والجديد الذي جاءت به
هذه التكنولوجيا، هو الوصول إلى عدد لا يحصى من الأشخاص، رغم بعد المسافات،
بفضل مواقع الشبكات الاجتماعية الافتراضية، وبلوغ أماكن جديدة بفضل ''الجي
بي أس'' أو ''النظام الشامل للتموقع'' وبرنامج ''غوغل إرث''، وولوج عالم
المعرفة بفضل الوكيبيديا.
ويعتقد ''ميشال سير'' بأن القلق من هذا
الجديد، يأتي من الحكم على التكنولوجيا الحديثة، بينما فهمها جيّدا يقتضي
تطليق الأحكام، سواء تلك التي تحتفي بها بإفراط أو تندد بها بشراسة،
والتعامل معها بما هي عليه، أي كجزء من واقعنا، مثلما يفعل جيل الإبهام.