عَن
ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ الله عَنْهُما: أن رَسُوَل اللهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ : "إنَّ الله تَجاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتي: الْخَطَأَ،
والنِّسْياَنَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ".
"تجاوز": عفا.
"لي": لأجلي وتعظيم أمري ورفعة قدري.
"أمتي": أمة الإجابة، وهي كل من آمن به صلى الله عليه وسلم واستجاب لدعوته.
"الخطأ": ضد العمد لا ضد الصواب.
"النسيان": ضد الذِّكْر.
"استكرهوا عليه": يقال: أكرهته على كذا إذا حملته عليه قهراً.
إن
من أتى بشيء مما نهى الله عنه، أو أخل بشيء مما أمر الله تعالى به، دون
قصد منه لذلك الفعل أو الخلل، وكذلك من صدر عنه مثل هذا نسياناً أو أُجبر
عليه، فإنه لا يتعلق بتصرفه ذم في الدنيا ولا مؤاخذة في الآخرة، فضلاً من
الله تبارك وتعالى ونعمة.
فضل الله عز وجل على هذه الأمة ورفع الحرج عنها:
وهكذا لقد كان فضل الله عز وجل عظيماً على هذه الأمة، إذ خفف عنها من
التكليف ما كان يأخذ به غيرها من الأمم السابقة، فقد كان بنو إسرائيل: إذا
أُمروا بشيء فنسوه، أو نهوا عن شيء فأخطؤوه وقارفوه عجل الله تعالى لهم
العقوبة، وآخذهم عليه، بينما استجاب لهذه الأمة دعاءها الذي ألهمها إياه،
وأرشدها إليه جل وعلا، إذ قال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا
كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا
تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]. فتجاوز سبحانه عما يقع خطأً أو نسياناً فلم يؤاخذها به، قال سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:
5]. أي لا تؤاخذون فيما وقع منكم خطأً، ومثله النسيان، ولكن تؤاخذون بما
قصدتم إلى فعله. كما أنه سبحانه لم يكلفها من الأعمال ما تعجز عن القيام
به في العادة، ولم يحملها من التكاليف ما فيه عسر وحرج، أو يوقع التزامه
في مشقة وضيق، وذلك لامتثالها أمر الله عز وجل على لسان رسوله المصطفى صلى
الله عليه وسلم إذ قالت:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
المتجاوَزُ عنه الإثم، لا كل ما يترتب من الحكم:
إن تصرف المكلف إذا لم يأت على وَفق ما جاء به الشرع ترتبت عليه أحكام:
منها المؤاخذة والإثم، ومنها تدارك ما فات أو ضمان ما أتلف ونحو ذلك.
وقد قامت الأدلة من الشرع على أن المراد رفع الإثم والمؤاخذة، لا كل ما يترتب من أحكام، على تفصيل في الحكم.
اقتضت
حكمة الله عز وجل: أن لا يؤاخذ فرداً من هذه الأمة إلا إذا تعمد العصيان،
وقصد قلبه المخالفة وترك الامتثال، عن رغبة وطواعية. والعفو عن ذلك _ أي
عن إثم الخطأ والنسيان والإكراه _ هو مقتضى الحكمة والنظر، مع أنه تعالى
لو آخذ بها لكان عادلاً.
قتل الخطأ:
من قصد إلى رمي صيد أو عدو فأصاب مسلماً أو معصوم الدم فإنه لا إثم عليه
ولا ذنب، وإن كان هذا لا يعفيه من المطالبة بالدية والكفارة.
تأخير الصلاة عن وقتها: من أخر الصلاة عن وقتها بعذر كنوم أو نسيان فإنه لا يأثم، ولكنه يطالب بالقضاء فور الاستيقاظ أو التذكر.
تفصيل القول في حكم الخطأ والنسيان:
أولاً:
إن
وَقَعَ الخطأ أو النسيان في ترك مأمور به لم يسقط، بل يجب تداركه. ومثال
ذلك في الخطأ: ما لو دفع زكاة ماله إلى من ظنه فقيراً، فبان غنياً، لم
تجزئ عنه، ووجب عليه دفعها للفقير، وله أن يرجع بها على الغني.
ثانياً:
إن
وقع الخطأ أو النسيان في فعل منهي عنه، ليس من باب الإتلاف، فلا شيء عليه.
ومثاله في الخطأ: من شرب خمراً، ظاناً أنها شراب غير مسكر، فلا حد عليه
ولا تعزيز، وفي النسيان : ما لو تطيب المحرم أو لبس مخيطاً ونحو ذلك،
ناسياً فلا شيء عليه.
ثالثاً:
إن
وقع الخطأ أو النسيان في فعل منهي عنه، هو من باب الإتلاف، لم يسقط
الضمان، ومثاله: ما لو قُدِّم له طعام مغصوب ضيافة، فأكل منه ناسياً أنه
مغصوب أو ظناً منه أنه غير مغصوب، فإنه ضامن، ومثله لو قتل صيداً وهو
محرم، ناسياً لإحرامه أو جاهلاً للحكم، فعليه الفدية.
مالا يعذر به الناسي:
ما سبق من القول من رفع المؤاخذة عما وقع من تصرف نسياناً إنما هو في
الناسي الذي لم يتسبب في نسيانه، أما من تسبب في ذلك كأن ترك التحفظ وأعرض
عن أسباب التذكر، فإنه قد يؤاخذ عن تصرفه ولو وقع منه نسياناً، وذلك: كمن
رأى نجاسة في ثوبه فتباطأ عن إزالتها حتى صلى بها ناسياً لها، فإنه يعد
مقصراً مع وجوب القضاء عليه.
ما يترتب على فعل المكرَه: تختلف الأحكام المترتبة على فعل المكره حسب درجة الإكراه، وطبيعة الفعل المكره عليه:
فقد
يكون الإكراه ملجئاً: بمعنى أن المكره يصبح في حالة لا يكون له اختيار في
فعل ما أُكره عليه بالكلية ولا قدرة لديه على الامتناع منه، وذلك: كمن
رُبِط وحُمِلَ كرهاً، وأُدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله، فلا إثم
عليه بالاتفاق، ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند الجمهور.
وقد
يكون الإكراه غير ملجئٍ: بمعنى أن المكره يستطيع أن يمتنع عن فعل ما أكره
عليه، فإذا كان المكره على هذه الحال فإن فعله يتعلق به التكليف، وذلك:
كمن أكره بضرب أو غيره حتى فعل، فإن كان يمكنه أن لا يفعل فهو مختار
لفعله، لكن ليس غرضه نفس الفعل، بل دفع الضرر عنه، فهو مختار من وجه، وغير
مختار من وجه آخر، ولهذا اختلف فيه: هل هو مكلف أم لا ؟[انظر الفقه :كتاب
الإكراه].