بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تدل
الرسومات الصخرية والآثار المتناثرة بالمنطقة على استيطان الإنسان بها منذ
ما قبل التاريخ وإنشائه العديد من التجمعات الحضرية التي منها ما اندثر
ولم تبق إلا أطلاله، ومنها ما صمد وتطور إلى قرى ومدن ما فتئت تؤكد حضورها
في التاريخ، ولعبت على مسرحه الكثير من الأدوار المشهودة .
ولا تزال حول مدينة
الأغواط بعض الشواهد من بقايا العصر الحجري الحديث (من 9إلى 6آلاف سنة قبل
الميلاد) تتمثل في الرسومات الصخرية المزروعة عبر هضبات سيدي مخلوف،
الحصباية، تاجموت الحويطة والتي ما زالت تحافظ عنى مخلفات إنسان ما قبل التاريخ .
كما لا تخلو المنطقة
من بصمات العهد الروماني مثل بعض الآثار واللقى والعملات التي عثر عليها
بعض المنقبين وهي بقايا تدل على الأهمية التي اكتسبتها منذ العصور الموغلة
في القدم.
تلك
الأهمية التي تكرست بصورتها الجلية في العهد الإسلامي الذي برزت خلاله
المدينة وتطورت بطابعها المعماري العربي الإسلامي، في أحياءها وحاراتها
وشوارعها ومساجدها ومبانيها عامة التي تعكس مميزات التراث الشرقي والصبغة
الصحراوية، فمن أحياء متراصة تدل على عمق وحميمية العلاقات الأسرية
والاجتماعية من جهة،وتحقيق التكيف مع المناخ السائد من جهة ثانية، إلى
شوارع ضيقة ومتعرجة فرضتها بالإضافة إلى ذلك مقتضيات توفير الأمن وتسهيل
عمليات الدفاع، إلى ساحات (رحبات) تتوسط الأحياء وتكون ملتقى السكان في
اجتماعهم وأسمارهم وعرض بضائعهم الفلاحية... إلى مساجد ومبان استغلت فيها
الخامات المحلية : الطوب (الذي يدعونه القالب) والحجارة والجير والجبس،
وأسقف من جذوع النخل والصفصاف والقصب وبلاط أجري... وروعي فيها أهم خصائص
الطراز الشرقي العربي الإسلامي من انفتاح المبنى على الداخل لا على
الخارج، واصطفاف الغرف حول فناء تزينه أقواس في أغلب المنازل الفاخرة إلى
غير ذلك من الخصائص الهندسية والجمالية الفطرية التي كانت مثار إعجاب
الرحالة المسلمين والمؤرخين والأدباء والرسامين الغربيين الذين خلدوها في
نصوصهم ولوحاتهم . هذا بالإضافة إلى بساتينها الشهيرة التي كانت في
البداية منعزلة عن المباني المقامة على الهضاب المشرفة، ثم وقع الامتزاج
بين المساكن والبساتين. هذه البساتين أو الغوطات التي يرجح المؤرخون أن
اسم المدينة مأخوذ منها.
وما فتئت المدينة تنمو عبر العصور وتستقطب باستمرار الكثير من أبناء القرى والأرياف القريبة منها.
ولكن
جيوش الاحتلال الفرنسي دمرت سنة 1952 عدة أجزاء منها وقتلت وشردت أهلها ثم
ما لبثت أن استعادت عمرانها واستأنفت نموها، بحيث زحفت المساكن باطراد على
الأراضي الفلاحية والبساتين. وأقام الفرنسيون فيها العديد من المساكن
والمباني الرسمية، ونسجل أنهم أقاموها في بداية أمرهم وفق الأنماط
المعمارية المحلية من أقواس وأفنية... واستغلوا في ذلك مواد البناء
المعهودة من طوب وحجارة وجذوع نخيل وأشجار... كما تدل على ذلك المنشآت
التي مازالت باقية .
غير
أن في القرن العشرين مع الانفجار السكاني وظهور مواد البناء الجديدة
الأكثر اقتصادا وسهولة من اسمنت وحديد... أخذ السكان والسلطات يتخلون عن
المواد التقليدية وعن الطرز الهندسية الأصلية وقد استفحل هذا منذ استعادة
الاستقلال الوطني خاصة في ظل تحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية للسكان
وما عرفته الأسر من نمو ديمغرافي وتغير في العقليات ونزعة استقلالية لدى
الأجيال الجديدة التي استدعت التهافت على إنشاء المساكن الخاصة، الأمر
الذي يكاد يقضي على البساتين والأراضي الفلاحية وبعد ما كانت مدينة
الأغواط حتى الخمسينيات من القرن العشرين تخلو من أية مساكن على شكك
العمارات نجد الآن هذا النمط هو الساند فيما ينجز من مبان.
أما التراث المعماري
في المدينة القديمة فهو في تناقص وتدهور لقلة العناية به مما يقتضي
التفاتة عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حفاظا على تاريخ هذه المدينة التي
كانت درة من درر العمران الصحراوي.
عادات أصيلة
من
المآثر المتوارثة إلى عهد قريب أن الفلاحين وسكان المدينة كانوا محققون
شبه اكتفاء ذاتي، ولم يكن إنتاجهم موجها في الأساس إلى التسويق، وإنما
للاستهلاك، وكان كل من له بستان يعود ببعض إنتاجه على معارفه وأقاربه
وجيرانه والمحرومين وأفضل ما يتهادون به البواكير التي يسمونها "الفال"
وفي جو من التواد والتكافل الاجتماعي المستمد من القيم الإسلامية الراسخة
في هذه الديار.
ومنها ما
اشتهر باسم "التويزة" وهي حملات تعاونية تطوعية يشترك فيها مجموعة من
السكان لإنجاز مشروع ما صغير أو كبير، ومن أمثلتها خروج الفلاحين بآلاتهم
إلى موقع السد الذي ترتوي منه المدينة لإعادة إقامته كلما داهمته السيول
العارمة وأزالت حاجزه، وتتكرر العملية ربما عدة مرات في السنة بحسب
السيول، ويحاولون ألا يستغرق أكثر من يوم لئلا تنقطع المياه عن المدينة،
ونفس الشيء لإصلاح السواقي وتنظيفها.
وكذلك اشتراك
السكان في إنجاز المباني سواء كانت عامة كالمساجد أو المدرسة الحرة
التابعة لجمعية العلماء التي بنيت بالتبرعات والتويزة، أو خاصة كمساكن
المواطنين .
وكذلك
في الأشغال الفلاحية الموسمية لضخامتها واستعجالها لجني التمور وبعض
الثمار الوفيرة، وتقليب الأرض وبذرها وفي الحصاد... في أجواء من الحماس
والإنشاد. وللنسوة أيضا في أعمال النسيج وفي المناسبات حملات تويزة .
وما من مناسبة
أو احتفال إلا ويكون حاضرا فيها الطعام الشهير بالأغواط الكسكس الذي غلب
عليه لأهميته وانتشاره تسمية "الطعام". وطعام "كسكس" الأغواط يمتاز
بتركيبته ومذاقه عما هو معروف عن هذه الأكلة في المدن الأخرى.
وهناك أكلات
أخرى كثيرا ما تحضر في المناسبات الاحتفالية منتشرة في هذه المدينة
والمناطق السهبية المجاورة ولازالت متداولة رغم تأثير كل من الأطعمة ذات
المنشأ الغربي و المشرقي في السنوات الأخيرة .
وإذا ما عرجنا
في عجالة على اللباس التقليدي الأصيل فإننا نجده غير مختلف كثيرا عما هو
سائد في المدن العريقة، ولاسيما في المنطقة السهبية والصحراوية فبالنسبة
للرجل: هناك البرنس والقشابية "الجلابة" والقندورة والسروال العربي
والبدعية "الصدرية" والقميص والعمامة التي تختلف أحجامها والتي تقلصت عبر
الزمن .
أما
ما يمكن ذكره بخصوص لباس المرأة فهناك ما يسمى "بالقنبوز" الذي هو حجاب
سابغ لا يبرز إلا عينا واحدة وكان يتخذ من القماش الأزرق ثم الأبيض وله
نظائر قديمة مثل مدن أخرى كتلمسان "حجاب الفتاشة" وهناك الفستان
والحولي،والوقاية والخمري... إلا أن هذه الألبسة التقليدية تكاد تنقرض
الآن لحساب ألبسة عصرية مستحدثة ومستوردة، مما يقتضي إنشاء متحف محلي
للمصنوعات والألبسة التقليدية والحلي من شأنه خدمة التاريخ ورصيد التطورات
والتغيرات الاجتماعية وتكوين رصيد حضاري يمكن اتخاذه كمرجع يستفاد منه في
الدراسات واستلهامه في الإبداعات الجديد .
ومما عرف به
سكان الأغواط وعلى غرار المدن الإسلامية العريقة احتفاؤهم بالعديد من
المناسبات ذات الطابع الديني والتاريخي بطريقة متميزة من حيث التحضير الذي
ينطلق أياما قبل حلولها ومن حيث الطقوس والمظاهر الاحتفالية بها وأهمها:
المولد
النبوي: الذي كان يحظى من جميع طبقات المجتمع بالاهتمام، ففضلا عن المدائح
الدينية التي تقام في كل مسجد ومحضرة "كتاب" لمدة أسبوع على الأقل يحرص كل
رب
أسره
على أن يوسع في الإنفاق على أهل بيته في اللباس والأكل وشراء لوازم
الاحتفال تعبيرا عن حب هذا المجتمع لنبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
عاشوراء:
وتتميز بمظاهر احتفاليه وطقوسبة ولاسيما تجاه الأطفال كما يحرص الكبار على
صومها عملا بالسنة النبوية وعلى إخراج الزكوات والصدقات فيها.
شهر
رمضان: الذي يعرف استعدادات كبيرة من طلاء وتنظيف البيوت وتجديد بعض
أثاثها وتحضير التوابل وبعض الأكلات مسبقا، كما يعرف توسعا في الإنفاق
مهما كانت المداخيل واجتماع أفراد الأسرة على مائدة الإفطار، وتزاور الأسر
في الليل،
الأحياء
يستغلونها طوال الشهر في التجمع لتناول ما يجلبونه من بيتهم من أطعمة
الإفطار المتنوعة في نوع التكافل وفي جو من المرح وحرص الكل حتى بعض
المفرطين على أداء صلاة التراويح بالمساجد. أما بخصوص الأطفال فهناك عادة
متفردة كانت تتمثل في قيامهم ببناء مصاطب في والأخوة. وكل طفل أو بنت
يتخلف عن المشاركة يصبح عرضة للسخرية من خلال أهازيج محفوظة يرددها
زملاؤه، إلا أن هذه العادة الحميدة والطريقة قد تلاشت الآن . رأس العام:
ويشمل كلا من بداية السنة الهجرية والسنة الميلادية والسنة الفلاحية ففي
كل مناسبة من هذه المناسبات تحضر أطعمة خاصة.
ومع كل ما ذكر من طرائق الاحتفال والإنفاق إلا إنها كانت بعيدة عما نعهده الآن من غلو وإسراف وتبذير وبذخ مبالغ فيه .
الصناعات التقليدية والحرفية :
بما
أن مدينة الأغواط منذ نشأتها الأولى كمركز حضاري واقع في قلب السهوب وقائم
في أرض فلاحية مما جعلها تجمع ما بين الحضارة والبداوة، وبالنظر إلى أن
الإنسان منذ القدم
يسعى
إلى التلاؤم والتكيف والتفاعل مع بيئته أخذا وعطاء يستمد منها المواد
الأولية يصوغها وفق أشكال هندسية وفنية ليحقق بها أغراضا عملية، ويعبر بها
عن مشاعره الإنسانية وتطلعاته الفنية والروحانية فسكان مدينة الأغواط
بالطبع لا يخرجون عن هذه القاعدة الحضارية، إذ نجدهم في مختلف إنتاجهم
ومصنوعاتهم الأصيلة يعتمدون في الأساس على الخامات المحلية التي توفرها
لهم بيئتهم وأرضهم، سواء تعلق الأمر بالمواد الفلاحية أو الحيوانية فقد
كانت أشجارهم ونخيلهم تمدهم بخامات يصنعونها لسد حاجاتهم في أشكال وأدوات
متنوعة، فمنها يصنعون سقوف البيوت وألواح الأبواب ومعدات النسيج كأجزاء
الأنوال (المناسج) على اختلافها وأدوات الفلاحية، كما كانت تربة أرضهم
وحجارتها تمدهم بالخامات الأولية لصناعة قوالب البناء والآجر ولصناعة
الجبس والجير بواسطة أفران كانت مقامة على أطراف المدينة إلى وقت قريب أما
الحيوانات التي تحفل بها السهوب المحيطة فتوفر لهم خامات الصناعات الجلدية
والنسيجية المختلفة . وأما الصناعات المعدنية فإن موادها الأولية تجلب من
مناطق توفرها لصناعة المواد الحديدية والنحاسية والحلي. وإذا ما أردنا
تصنيف الصناعات التقليدية والحرفية المعروفة في مدينة الأغواط فإننا نورد
منها ما يلي:
المنسوجات:
وتنقسم إلى
المنسوجات الخاصة باللباس ومن أهمها البرانس التي تصنع من الصوف أو الوبر.
كما أن أنواعا منها تجمع ما بين الصوف والحرير أو من الحرير فقط وهو ما
يسمى (البرنوس الحريري) بتشكيلات مختلفة تتفنن فيها النساجة الأغواطية .
وكذلك
القندورة التي تصنع من نفس الخامات، وهناك القشابية (الجلابة) التي تصنع
من الصوف غالبا. ويخص الأطفال بألبسة مزركشة كانت تدعى الزقدونة أو
الزرقوطة. وإلى منسوجات منزلية، وقد اشتهرت الأغواط قديما بنماذج منها:
الحائك: الذي يستعمل كفراش أو غطاء ويكون عادة مخططا بالألوان ومرصعا ببعض الأشكال أحيانا.
الجربي:
وهو نوع شبيه بالسابق من حيث الحجم ولكن يختف عنه بكثرة الزخارف والأشكال
وأكثر رقيا وفنية وسعرا. الزرابي: وهي متنوعة وقد أبدعت أنامل النساجات
الأغواطيات في هذا المجال وأظهرن براعة مشهودة في إنتاج الزرابي المرقومة
أي المزينة بالأشكال والصور المختلفة ذات الدلالات والرموز الموحية في
حاجة إلى دراسة تكشف عن أسرارها ورموزها.
وهناك أنواع
أخرى من المنسوجات الأقل حجما من مخدات وحقائب... وكلها محلاة بالألوان
والأشكال، غير أنه منذ الخمسينات أخذت تلك المنسوجات العريقة تتراجع لحساب
أنواع أخرى مستوردة من داخل الجزائر أو خارجها كتلك الزرابي ذات المنشأ
الشرقي الفارسي.
الصناعات
المعدنية : أهم ما يذكر منها الحدادة التقليدية التي كانت تسد معظم حاجيات
أهل المدينة وبواديها من الأدوات المختلفة سواء للاستعمال المنزلي
كالسكاكين
والسواطير... أو للاستعمال الفلاحي بمختلف أصنافها أو الاستعمالات الحرفية والصناعية الأخرى كأدوات النسيج وغيرها...
وقد كانت
بالأغواط إلى عهد قريب عده ورش للحدادة تعمل بطرق ووسائل تقلديه قبل ظهور
الحدادين المعاصرين المعتمدين على الكهرباء وأدواتها وإنجاز مصنوعاتهم
المختلفة عن المصنوعات الحرفية القديمة .
كما
نذكر أن بعض الصانعين امتهنوا صناعه بعض الأسلحة وإصلاحها بصفة أخص
الخياطة:وقد كانت قبل انتشار الملابس الجاهزة حرفة رائجة لكثرة الطلب
عليها سواء لخياطة الثياب المنسوجة يدويا أو المنسوجة صناعيا فقد كانت
الشوارع والرواقات تعج بدكاكين الخياطين الذين كانوا ذوي مهارة في تفصيل
الملابس التقليدية المختلفة، وفيهم من مهر بعد الاحتلال الفرنسي في
التفصيل والخياطة وفق الطرز الأوربية، ولم يبق من هؤلاء إلا نفر قليل.
الصناعات الجلدية :توارث الأغواطيون وإلى عهد قريب عدة صناعات في هذا لمجال نذكر منها:
صناعة الأحذية
للرجال والنساء منها ما كان يسمى الريحية والصباط والنعالة والبلغة
والصنديلة والتزمة (الجزمة) والتماق والبست (جورب جلدي للفرسان ) وكانت
تصنع بكيفيات ومستويات مختلفة .
ومنها صناعة
المجبود أي الجلد المطرز بالخيوط الذهبية والفضية،وغالبا ما يستخدم في
غطاء السروج وفي علب البارود (العبار) ومحافظ النقود وغيرها من تلك
الصناعات الرفيعة التي اندثرت مع الأسف منذ أواخر الخمسينات، بعد أن كان
بالأغواط شارع هام يسمى زقاق الشراكة (صناع المنتوجات الجلدية) خاص بهم .
والأمل معقود على بعض البوادر والمبادرات التي تظهر من بعض الشباب التواقين إلى إحياء هذه الحرف إذا ما وجدوا التشجيع والمساعدة .