صنع شيئا معجزا؛ وحدنا الله تعالى به: بيضا وسودا، وحمرا وصفرا.. عربا
وغير عرب.. أغنياء وفقراء.. ذوي رتب ودون ذلك.. أسيادا وخدما.. الذكور
والإناث.. والصغار والكبار. وبه كنا إخوانا متآلفين، قَالَ: (الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ).
به رفع الضعيف إلى رتبة القوي كيلا يهون، ونزل بالقوي كيلا يطغى، ومنع من الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، قَالَ : (إِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ
بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ). أحمد
أعطى كل ذي حقه حقه، ثم ساوى بين الناس في حقوقهم، وجعل لأدناهم شرفا وكرامة، فقال: (الْمُؤْمِنُونَ
تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى
بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا
ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ). أحمد
في دولته جلس الموالي جنبا إلى
جنب مع الأشراف، واقتص العبيد من أسيادهم، وخضع ذوو الرتب للحق وذلوا
لإخوانهم الضعفاء، حتى شاع العدل، وانتفى الظلم، وانمحى التعالي والغرور
والازدراء والاحتقار، فكان مقام المرء بحسب دينه وتقواه، وعلمه وفقهه، ومن
بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه.
بهذا النبي المبارك صلى الله عليه وسلم
خرج الناس من دولة الجور والضيق بالنسب والحسب والشرف بين الجبال الشاهقة
المانعة من الارتقاء، والوديان الضيقة على السير والأمان، إلى أرض السعة
والرحابة بالإيمان والعقل والتعارف، فتعرف عقلاء كل أمة على بعضها، فزاد
في عقلهم، وزاد من إدراكهم، حتى اجتمع عند الناس من العلوم ما لم يكن جزؤه
لو أغلقوا الحدود وأوصدوا الأبواب أمام كل غريب العرق واللون.
هذا
النبي صنع أمة بلا حدود، بدأ لبنتها في مكة والمدينة ثم الجزيرة، لكنه أسس
ووطد لدولة لا تمانع أن تكون حدودها الأرض كلها، من شرقها إلى غربها،
وشمالها إلى جنوبها، بما وضع من أسس وقواعد الأخوة في الإنسانية والدين،
فلم يفرق إلا بالتقوى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وما عدا ذلك، فكل نفس بما كسبت رهينة، فعمل الإنسان هو ما يرفعه، لا يبخس
منه شيئا، أما لونه أو جنسه أو عرقه أو أرضه أو رتبته أو كل شيء كان بغير
اختيار منه، ولم يشارك في صنعه، فلم تكن مما عملته يداه، فليس له فيه
ثناء، ولا حمد ولا ثواب، إنما حمده وثوابه على ما صنع وقدم من الخير، فهو
ميدان للتسابق.
بهذا أمن الناس على حقوقهم ألا تسلب، وعلى جهودهم ألا
تهدر، وعلى كرامتهم أن تصان وتحفظ، فما سمع بالإسلام أحد وفيه هذه الحقوق
الإنسانية الكريمة، إلا وبادر إليه رغبة وشوقا، فالضعفاء وجدوا فيه ملجأ
من الظلم والجور، والأقوياء وجدوا فيه العدل والعون على الحق ولجم النفس
عن البغي.
لو لم نعرض من سيرته سوى هذا الجانب، الذي به أعاد الكرامة للإنسان.
لو
عرضنا على العالمين وأوردنا لهم ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم من مثل
هذا: فلن يبقى في الأرض أحد إلا ودخل الإسلام، أو عنصري مقيت يجد هلاكه في
إيمان العبيد.
د. لطف الله خوجة
الجمعة 28/09/2012