التخلص من النفايات النووية.. بين الرعب البيئي والحلول المبتكرة
تستخدم
المفاعلات النووية في بقاع شتى من المعمورة كمصدر رئيسي للحصول على
الطاقة. ومع اطراد النمو الصناعي في كثير من بلاد العالم، يتزايد الإقبال
على المفاعلات النووية لتوفير الطاقة اللازمة لإدارة عجلات الصناعة.
وخلافًا لمشكلة تسرب المواد المشعة من المفاعلات النووية، هناك مشكلة أشد
خطورة وأكثر حدة، وهى التخلص من «العادم النووي». فالمواد المشعة التي
تستخدم كوقود في المفاعلات النووية لإنتاج طاقة، يتخلف عنها «عادم» أو
«نفايات».
ونظرًا للمخاطر الكبيرة المترتبة على صدور إشعاع من المواد
الموجودة في نفايات المفاعلات النووية، اهتمت الحكومات والأوساط العلمية
بالبحث عن أفضل السبل للتخلص من العادم النووي.
مستويات النشاط الإشعاعي
المواد
المشعة عناصر كيميائية موجودة في الطبيعة، ينبعث منها إشعاع يختلف مقداره
من عنصر إلى آخر. وبصدور الإشعاع من عنصر معين، فإنه بعد زمن يختلف قصرًا
وطولًا من عنصر إلى آخر يتحول إلى عنصر جديد ثابت، أى لا يصدر عنه نشاط
إشعاعي.
والفترة الزمنية التي يفقد فيها أي عنصر مشع نصف نشاطه الإشعاعي
تعرف باسم «نصف العمر». وبعض العناصر المشعة يطول نصف عمرها إلى آلاف
السنوات. فمثلاً عنصر «البلوتونيوم» يقدر نصف عمره بأربعة وعشرين ألف عام.
أما إذا كان النشاط الإشعاعي كبيرًا، بمعنى أن قدرًا كبيرًا من الإشعاع
يصدر عن العنصر في زمن قصير، فإن نصف العمر يقل تبعًا لذلك. فمثلاً نصف عمر
عنصر «سيزيوم» ثلاثون عامًا، بينما نصف عمر عنصر
«سترونيوم» ثمانية وعشرون عامًا. أي أن النشاط الإشعاعي لعنصر «سترونيوم» أكبر منه لعنصر «سيزيوم».
وعند
كتابة أسماء العناصر الكيميائية عمومًا، والمشعة منها بوجه خاص، فإنها
تكتب متبوعة برقم، هكذا: «سترونيوم 90»، «سيزيوم 137»، «بلوتونيوم 239».
وهذا الرقم هو «العدد الذري» للعنصر.
و«العدد الذري» هو عدد
«البروتونات» (الأجسام موجبة الشحنة) في نواة ذرة العنصر. أما الذرة نفسها
فهى أصغر وحدة تركيبية في الكون. وجميع العناصر المشعة يزيد فيها العدد
الذري على الرقم «83».
أما النشاط الإشعاعي فيقاس بوحدة تعرف باسم
«كوري» (أو «كيوري») Curie (نسبة إلى الفرنسية ماري كوري التي اكتشفت
النشاط الإشعاعي لعنصر «الراديوم 88» في عام 1898). ويعتبر النشاط الإشعاعي
لعنصر «الراديوم 88» «الوحدة العيارية» التي يقاس عليها نشاط باقي العناصر
المشعة.
ومن حيث مستوى النشاط الإشعاعي، تقسم العناصر المشعة إلى
مستويين: المستوى الأول يضم العناصر قصيرة العمر، ذات النشاط الإشعاعي
العالي، مثل «سترونيوم 90». وهذه العناصر تسبب أضرارًا بالغة للخلايا الحية
حيوانية كانت أم نباتية عند تعرضها للإشعاع الصادر عنها. أما المستوى
الثاني فيشمل العناصر طويلة العمر، ذات النشاط الإشعاعي المنخفض مثل
«بلوتونيوم 239». ومثل هذه العناصر لا تسبب ضررًا بليغًا فوريًا عند تعرض
الخلايا الحية للإشعاع الصادر عنها. إلا أن لها آثارًا تراكمية تؤدي إلى
الضرر في المدى البعيد.
العادم النووي
يقسم
«العادم النووي» Nuclear Waste من حيث النشاط الإشعاعي إلى ثلاثة مستويات :
العادم ذو المستوى المنخفض، وهو الذي يصدر عنه نشاط إشعاعي لا يتجاوز مائة
كوري لكل متر مكعب من العادم، والعادم ذو المستوى المتوسط، وهو الذي يصدر
عنه نشاط إشعاعي لا يزيد على عشرة آلاف كوري لكل متر مكعب. أما العادم ذو
المستوى العالي، فهو الذي يصدر عنه نشاط إشعاعي يصل إلى عشرة ملايين كوري
لكل متر مكعب.
وعندما يتعرض الإنسان للإشعاع سواء ذلك الصادر عن العناصر
المشعة المستخدمة في المفاعلات النووية، أو الصادر عن نفايات تلك
المفاعلات فإنه يتعرض لجملة من المخاطر، أيسرها الإصابة بالأنيميا (فقر
الدم) نتيجة كبح نشاط نخاع العظام لإنتاج خلايا دم. ومن المخاطر الأخرى،
كبح نشاط جهاز المناعة في الجسم، وبالتالى التعرض المتكرر للإصابة بأمراض
متعددة لا يصاب بها الإنسان في حال نشاط جهاز المناعة. أما أخطر آثار
التعرض للإشعاع فهو الإصابة بالسرطان، خصوصًا سرطان الجلد. وعلى المدى
البعيد يمكن أن يؤدي الإشعاع إلى الإصابة بالعقم، والى إحداث تحورات في
الجينات تؤدي في حال انتقالها إلى الذرية إلى تشوهات خلقية. وبينما يحدث
فقر الدم في غضون أيام أو أسابيع قليلة من التعرض للإشعاع، فإن الإصابة
بالسرطان تحدث بعد زمن أطول عدة شهور أو سنوات تبعًا لمقدار الإشعاع.
ومادام
الحال كذلك، فلا عجب أن يكون التخلص من العادم النووي مشكلة مؤرقة، سيما
وأن أعدادًا أكبر من الناس يحتمل أن تتعرض للإشعاع الصادر عنه، على خلاف
المفاعلات النووية التي يقتصر عنصر الخطر فيها على العاملين فحسب. وهؤلاء
أمكن تأمين سلامتهم بملابس واقية ووسائل وقائية أخرى.
المحيطات مستودع النفايات
من
حسن الطالع أن معظم النفايات النووية هى من ذات المستوى المنخفض. والمتبع
في معظم المفاعلات النووية في العالم تحويل تلك النفايات إلى كتلة صلبة
بخلطها مع الأسمنت، ثم وضعها في أسطوانة من الحديد. ووفقًا للتعليمات
الدولية، تلقى أسطوانات الحديد المحتوية على عادم نووي في مياه لا يقل
عمقها عن أربعة كيلومترات، وعلى بعد مائة كيلومتر من الشواطئ في أي اتجاه.
ولا تفي بهذه الشروط إلا المحيطات الكبرى، ولذلك فإنها المستودع العالمي
للنفايات النووية.
ومنذ عام 1949 إلى اليوم، ألقي في المحيطات أكثر من
ستة آلاف أسطوانة حديد محتوية على عادم نووي. وكان الاعتقاد أن تلك
الأسطوانات ستملأ الفجوات الموجودة في أعماق المحيطات. بيد أن الاستمرار في
ذلك العمل قد يؤدي إلى تغيير الطبيعة الجغرافية لقاع المحيطات، وهو أمر لا
تعرف عواقبه الآن، وإن كان بالقياس الرياضي يمكن أن يؤدي إلى فيضانات
بإزاحة مياه المحيطات.
من جهة أخرى، فإن العلماء يذهبون إلى أن تحلل
الحديد والأسمنت في مياه المحيطات، وبالتالي تحرر المادة المشعة داخل
الأسطوانات، سيستغرق سنوات طويلة. وحتى عند تحرر المادة المشعة فإنها ستذوب
في مياه المحيط، وبالتالي فإن الإشعاع الصادر عنها سيكون منخفضًا جدًا،
وفى حدود مستوى الإشعاع الطبيعي الصادر عن العناصر المشعة في الطبيعة.
إلا
أن التحذيرات بدأت ترتفع هذه الأيام، حول تأثير الإشعاع على أحياء الماء.
وعلى الرغم من أن مستوى الإشعاع في المحيطات يخضع لقياسات دورية، إلا أن
العلماء المشتغلين بالأمر مختلفون حول ما إذا كان مستوى الإشعاع قد زاد على
معدله الطبيعي، وما إذا كان لذلك آثار مباشرة على أحياء المحيطات
الحيوانية والنباتية.
على أنهم متفقون فيما بينهم على أن الاستمرار في
التخلص من العادم النووي بإلقائه في المحيطات، ستكون له آثار خطيرة على
الأجيال القادمة، يصعب تقديرها في الوقت الحالي.
ومما يزيد مخاوف
العلماء ويعزز صيحات التحذير أن بعض البلاد تتخلص من عادم ذي مستوى متوسط
بإلقائه في المحيطات. وهذا النوع من العادم يصدر عنه كما سلف القول مقدار
أكبر من الإشعاع. الأمر الذي يعني أن الآثار الضارة للإشعاع قد تقع في وقت
أقصر من المتوقع. من جهة أخرى، فإن بعض أحياء المحيط، مثل السمك المعروف
باسم «إلبوت» Eelpout، تتغذى على النباتات الموجودة في قاع المحيط. ومثل
هذه الأحياء ستكون أسرع تأثرًا بالإشعاع من غيرها. ونظرًا لأن نفس هاته
الأحياء ترتفع بسرعة إلى سطح المياه بعد تناول غذائها من القاع، فإنها قد
تقع في شباك الإنسان وبذلك تعجل نقل الإشعاع إليه!
الإشعاع العالي
تكمن
الخطورة الحقيقية لآثار الإشعاع، في العادم ذي المستوى العالي من الإشعاع.
وعلى الرغم من أن الناتج من هذا النوع من العادم قليل نسبيًا إذا ما قورن
بالنوعين سالفي الذكر من العادم النووي، إلا أن خطره أكبر بكثير. لذا فإنه
يحظى باهتمام أكبر ويحتاج إلى عمليات خاصة للتخلص منه.
في ألمانيا، يتم
التخلص من العادم ذي الإشعاع العالي بخلطه مع الأسمنت، ثم وضعه في أسطوانات
من الحديد. وفى حفرٍ في الأرض يصل عمقها إلى أربعة كيلومترات، تدفن
أسطوانات الحديد ثم تحاط بطبقة من «أكسيد المغنسيوم». والهدف من ذلك منع
تآكل أسطوانات الحديد بسرعة بفعل المياه الجوفية.
وعلى الرغم من أنه
يراعى أن تدفن تلك النفايات في مناطق غير مأهولة بالسكان، إلا أنها لا تخلو
من خطر. ذلك أنه إذا حدث زلزال فيمكن أن يدفع تلك النفايات إلى سطح الأرض،
حيث يصبح تسرب الإشعاع احتمالاً واردًا بقوة. وقد يكون الأمر أسوأ من ذلك
إذًا نفجر بركان، ففتت تلك الأسطوانات وقذف بها إلى سطح الأرض!
فى
الولايات المتحدة، يتم التخلص من العادم النووي ذي المستوى العالي من
الإشعاع، بنفس الطريقة المتبعة في ألمانيا مع فارق بسيط، هو أن الأسطوانات
المعدنية تحاط بطبقة من مخلوط من الطمى والجرانيت والبازلت (بدلاً من أكسيد
المغنسيوم). وجدير بالذكر أن حفرة واحدة تكفي لدفن العادم الناتج من
المفاعلات النووية كلها في دولة ما في عام واحد.
أما فرنسا فقد ابتكرت
طريقة جديدة لتحويل العادم النووي إلى كتلة صلبة غير منفذة للإشعاع. وتعرف
هذه الطريقة باسم «التزجيج» (التحويل إلى زجاج) Vitrification. والزجاج من
أكثر المواد مقاومة لعوامل التعرية، ومن أقل المواد إنفاذًا للإشعاع. وقد
أنشأت فرنسا مصنعًا لتحويل العادم النووي ذي النشاط الإشعاعي العالي إلى
زجاج. ويمكن للمصنع أن يتعامل مع ستة وثلاثين ليترًا من العادم النووي
السائل في ساعة واحدة، حيث يقوم بدمجها مع الزجاج لتكوين كتلة صلبة تزن
عشرين كيلوجرامًا. ويمكن دفن كتل الزجاج في قاع المحيط مباشرة، أو بعد
وضعها في علب معدنية. وبينما تعتبر طريقة التزجيج الفرنسية مأمونة الجانب
في صورتها النهائية، إلا أن نقل العادم النووي من المفاعلات النووية إلى
مصنع المعالجة لا يخلو من مخاطر. إذ عادة ينقل العادم النووي في شاحنات
(لوريات) أو قطارات. وهذه تكون عرضة لحوادث كثيرة من بينها الحريق
والانفجار. هذا عدا احتمال تسرب الإشعاع أثناء حركة الشاحنات والقطارات بين
المدن على الرغم من كل احتياطات وتدابير تأمين السلامة.
طريقة أخرى
مبتكرة تأتي من السويد، وفيها يضغط العادم النووي تحت قوة ضغط عالية، تناظر
تلك المستخدمة لإنتاج الماس الصناعي، لتحويله إلى أسطوانات صلبة من
السيراميك، ثم تحاط هذه الأسطوانات بأسطوانات أخرى من الأسمنت، وفى النهاية
توضع في علب معدنية أو أسطوانات من الحديد. وتقوم السويد حاليًا ببحث
إمكانية دفن تلك الأسطوانات في مناطق «ثابتة جيولوجيا» (أي لا تتعرض
للزلازل والبراكين) بدلاً من التخلص منها في المحيط.
فى بريطانيا، يتم
التخلص من العادم النووي عالي الإشعاع في «مدافن فولاذية»! وقد لجأت
بريطانيا إلى هذه الطريقة بعد وقوع أكثر من حادثة تسرب للإشعاع أثناء نقل
العادم النووي. وتتكون المقبرة الفولاذية من حفرة عميقة يتراوح قطرها ما
بين أربعة إلى خمسة أمتار. وتبنى قاعدة وجدران الحفرة من الخرسانة المسلحة،
ثم قاعدة مزدوجة وجدران مزدوجة من الصلب. ومثل هذه «المقابر النووية» تبنى
بجوار المفاعلات، لتفادي أخطار نقل العادم النووي. وتبدو الفكرة جيدة
ومأمونة، إلا أن المخاطر على المدى البعيد يصعب التنبؤ بها في الوقت
الحالي.
وأحدث فكرة في هذا السبيل تذهب إلى التخلص من العادم النووي
بنقله إلى الفضاء. ولكن هذه الفكرة، مثلها مثل باقي الأفكار والطرق
المذكورة، لا تحظى بإجماع كل العلماء والمسئولين، ولا تعرف آثارها على
أجيال المستقبل. ويبدو أن المخاوف من المخاطر المحيطة بالعادم النووي ستبقى
تشغل الأذهان زمنًا قبل أن يوجد لها حل مثالي. وإلى أن يتحقق ذلك، ستكون
تلك المخاوف الثمن الذي يدفعه الإنسان للتقدم العلمي الذي ولد المفاعلات
النووية كواحد من مصادر الطاقة.
د. عبدالرحمن عبداللطيف النمر
الملحق العلمي العدد 69 فبراير 2011
مجلة العربي الثلاثاء 1 فبراير 2011 27/2/1432هـ / العدد 627
التخلص من العادم النووي مشكلة مؤرقة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]