بسم الله الرحمن الرحيم
منذ
بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق شرقت به حلوق
المفسدين، فكذبوه وهم يعلمون أنه أصدق الصادقين، وناصبوه العداء وهم يعلمون
أنه رحمة للعالمين، بل إن بعض ألد أعدائه من اليهود كانوا قبل بعثته
يبشرون به فلما بعث كفروا حسدا وبغيا، وكذلك تجرأ عباد الأوثان على
الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم على حد قوله تعالى {وَإِذَا رَآكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} وقوله تعالى
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي
بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على هذا
الأذى ويدرك أن هذا سبيل المفسدين والغاوين مع الأنبياء والمرسلين
والمصلحين {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، ويقول
حين يبلغه الأذى من المنافقين كما في الصحيحين: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى
مُوسَى، أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ».
ولقد توعد الله من
يجترئ على مقامه الشريف صلى الله عليه وسلم بالعذاب في الدنيا وفي الآخرة
فقال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}، وقال تعالى{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا}.
كما وعده ربه تبارك وتعالى أن يكفيه أولئك الذين فسدت
طباعهم وانطوت على الحقد صدورهم فقال تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ}، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْمُسْتَهْزِئِينَ:
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ،
وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزَّى، وَالْحَارِثُ بْنُ غَيْطَلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْعَاصُ
بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَرَاهُ أَبَا عَمْرٍو الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، فَأَوْمَأَ
جِبْرِيلُ إِلَى أَبْجَلِهِ (الأبجل: عرق في باطن ساقه)، فَقَالَ: مَا
صَنَعْتَ شَيْئًا؟ فَقَالَ: كَفَيْتَكَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْحَارِثُ بْنُ
غَيْطَلٍ السَّهْمِيَّ، فَأَوْمَأَ إِلَى بَطْنِهِ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ
شَيْئًا؟ فَقَالَ: كَفَيْتَكَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ
السَّهْمِيَّ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ
شَيْئًا؟ فَقَالَ: كَفَيْتَكَهُ. فَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ،
فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا (يعني يُعِدُّ
سهاما) لَهُ، فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ
الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَمِيَ كَذَا، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ،
لَا تَدْفَعُونَ عَنِّي؟ قَدْ هَلَكَتُ أُطْعَنُ بِشَوْكٍ فِي عَيْنِي،
فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى
عَمِيَتْ عَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَخَرَجَ
فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ غَيْطَلٍ
فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خَرَؤُهُ مِنْ
فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ
كَذَلِكَ يَوْمًا حَتَّى دَخَلَ فِي رِجْلِهِ شِبْرِقَةٌ (أي شوكة) حَتَّى
امْتَلَأَتْ مِنْهَا فَمَاتَ»
لهذا فنحن على يقين من أن كل محاولات
المجرمين الآثمة للنيل منه صلى الله عليه وسلم سترتد على أصحابها خزيا وذلا
في الدنيا ثم عذابا مهينا في الآخرة إن شاء الله، بل إن نتائج هذا السقوط
الأخلاقي الذي يمارسه المبطلون سوف تظهر عاجلا في فتح أقطار قلوب الناس
لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولدعوة الإسلام.
حق الرسول صلى الله عليه وسلم علينا:
إن
حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كبير جداً، ولئن كان الذب والدفاع عن
المظلوم ونصرته واجبا؛ فما بالكم بحق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا تعرض
للإساءة؟ ولهذا فإننا نهيب بكل مسلم بل بكل حر كريم أن يتحرك الحركة التي
تناسب هذا الحدث الشنيع بحسب موقعه وإمكانياته، على أن لا يكون ذلك مجرد
ردة فعل عاطفية مؤقتة، بل ينبغي أن تكون حركة بصيرة منتجة دائمة، ففضلا عن
الوقفات الاحتجاجية السلمية المعبرة عن الغضب لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإنني أقترح في هذا الصدد ما يلي:
1 –
أن تقوم الحكومات العربية والإسلامية بالاحتجاج القوي لدى الإدارة
الأمريكية والدول الغربية التي تسمح لمثل هذا الإجرام والسقوط الأخلاقي أن
يمارس على أراضيها وأن تطالب بمنع وإيقاف هذا العبث والسفه بصورة قانونية،
فليس ذلك من حرية التعبير في شيء، بل هو سعي في الفتنة بين الأمم والشعوب،
واستهتار بكل القيم التي عرفتها البشرية.
2 –
أن تتولى المنظمات الإسلامية العالمية بالتعاون مع سفارات الدول العربية
والإسلامية تدشين حملة عالمية للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم بكل
اللغات الحية، موجهة إلى الجماهير الغربية والشرقية حتى تقف على عظمة النبي
محمد صلى الله عليه وسلم وعطائه المتميز للإنسانية.
3 –
أن تتولى الهيئات الثقافية في العالم العربي والإسلامي حملة لدعوة
المبدعين في كل مجالات الثقافة لتوظيف إبداعاتهم في تقديم الصورة المشرقة
الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء عن طريق الآداب أو الفنون أو
الرسوم أو المعارض المصورة، وتنظيم المسابقات في كل تلك المجالات.
4 – أن
تقوم وزارات التعليم في العالم العربي والإسلامي بتضمين السيرة النبوية
العطرة في مناهج التعليم المختلفة، بالطريقة التي تعلق قلوب النشء بالنبي
صلى الله عليه وسلم وتربطهم بالقيم الكبرى والأخلاق السامية التي تمتع بها
وغرسها في حياة الناس.
5 – أن يقوم
الأثرياء وذوو اليسار من المسلمين بإيقاف جزء من أموالهم لدعم هذه الحملات
والفعاليات والمؤتمرات والنشرات والإبداعات، لتعريف البشرية كلها بعظمة هذا
النبي الكريم وحقيقة رسالته العالمية الإنسانية.
6 –
أن يسعى المنتجون المسلمون لإنتاج أعمال فنية على أرقى مستوى من الكفاءة
وباللغات المختلفة لإبراز جوانب العظمة في شخصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وتقديمها لجماهير الناس في كل مكان، والتقدم بها للمنافسة في
المهرجانات الدولية.
7 - أن يكون من
أهم مناشط الطلاب على اختلاف مراحلهم مع بدء العام الدراسي الجديد التعريف
بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وإبراز مواطن الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة
في سيرته، لرفع همم الشباب ودفعهم إلى تحصيل أسباب التقدم على النحو الذي
يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8 –
أن تدرك الأمة بمختلف فئاتها ومذاهبها الفكرية والسياسية أهمية التوحد على
هذه القضية الكبرى وعدم التفرق أمام هذه الهجمة المجرمة، فما من مسلم أيا
كانت درجة تدينه بل وما من إنسان حر غير مسلم إلا استفزت مشاعرَه هذه
الإساءات غير الأخلاقية، ومن ثم فهي فرصة للاجتماع والاتفاق لا ينبغي
تفويتها على الإطلاق.
9 – أن يدرك
العقلاء أن من أهم أغراض هذه الحملة الساقطة إثارة الفتن في المجتمعات
العربية والإسلامية وخصوصا في مصر بين المسلمين وغير المسلمين، ولذلك حرص
مجرموها على وضع لافتة (أقباط المهجر) على عملهم الدنيء، والحمد لله أن
إخواننا المسيحيين في مصر وفي غيرها في الداخل والخارج قد أعلنوا تبرؤهم من
هذا الإسفاف وإدانتهم القوية لهذا السقوط، بل شارك بعضهم في الوقفات
الاحتجاجية عليه، ولهذا أدعو إلى استمرار اليقظة والوعي وتفويت أي فرصة على
مثيري الفتن للوقيعة بين أبناء الوطن.
10 –
أن يدرك العقلاء في هذا العالم أن من أهم أهداف مدبري هذه الإساءات
الوقيعة بين الشعوب والدول، من خلال استفزاز مشاعر المسلمين ودفعهم للتعبير
الغاضب الذي قد يصاحبه شيء من العنف والاعتداء على السفارات أو القنصليات
أو الأشخاص الأمريكيين، ثم إثارة أحقاد الشعب الأمريكي والشعوب الغربية ضد
هذه الاعتداءات، ومن ثم تبدأ دورة من الصراع الإسلامي الغربي غير المبرر.
ولهذا
فإنني أدعو إخواني المسلمين إلى التعبير عن غضبهم الشديد واحتجاجهم القوي
دون التعرض لأية منشآت أو أشخاص بالأذى، وقد ساءني كثيرا أن ينجح هؤلاء
المجرمون في تحويل الغضبة المحمودة لأبناء الأمة إلى تراشقات بين أبناء
الأمة أنفسهم من المتظاهرين وقوات الأمن التي تحمي المنشآت، فهل نعطي
بأنفسنا لأعدائنا ما يريدونه وما يتمنونه، وهل نحقق أغراضهم الدنيئة بغير
وعي، وهل تنسينا الحماسة الصادقة مبادئنا النبيلة وأخلاقنا القويمة؟
أسأل الله أن يكشف الغمة عن الأمة، وأن يرد الكيد على الكائدين، وأن تدور الدائرة على الظالمين.
أ.د/ عبد الرحمن البر
للأمانة منقول موقع
صيد الفوائد